قَالَ: الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ مَجْمُوعُ الْحَاضِرِينَ مَعَ الَّذِينَ سَيُولَدُونَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ هُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَمِنْ فِي قَوْلِهِ: مِمَّنْ مَعَكَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَالْمَعْنَى: وَعَلَى أُمَمٍ نَاشِئَةٍ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ مَعَهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِينَ عَطَفَهُمْ عَلَى نُوحٍ فِي وُصُولِ سَلَامِ اللَّه وَبَرَكَاتِهِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ. وَالثَّانِي: أُمَمٌ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى سَيُمَتِّعُهُمْ مُدَّةً فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ يَمَسُّهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، فَحَكَمَ تَعَالَى بِأَنَّ الْأُمَمَ النَّاشِئَةَ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمُوا إِلَى مُؤْمِنٍ وَإِلَى كَافِرٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّلَامَةِ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَكُلُّ مُؤْمِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ وَفِي ذَلِكَ الْعَذَابِ كُلُّ كَافِرٍ وَكَافِرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ قَالَ أَهْلُ التَّحْقِيقِ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا عَظَّمَ شَأْنَ نُوحٍ بِإِيصَالِ السَّلَامَةِ وَالْبَرَكَاتِ مِنْهُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَالَ: بِسَلامٍ مِنَّا وهدا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصِّدِّيقِينَ لَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا نِعْمَةٌ وَلَكِنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْرَحُونَ بِالنِّعْمَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ الْحَقِّ، وَفِي التَّحْقِيقِ يَكُونُ فَرَحُهُمْ بِالْحَقِّ وَطَلَبُهُمْ لِلْحَقِّ وَتَوَجُّهُهُمْ إِلَى الْحَقِّ، وَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا خَوَاصُّ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّ الْفَرَحَ بِالسَّلَامَةِ والبركة مِنْ حَيْثُ هُمَا سَلَامَةٌ وَبَرَكَةٌ غَيْرٌ، وَالْفَرَحُ بِالسَّلَامَةِ وَالْبَرَكَةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُمَا مِنَ الْحَقِّ غَيْرٌ، وَالْأَوَّلُ: نَصِيبُ عَامَّةِ الْخَلْقِ، وَالثَّانِي: نَصِيبُ الْمُقَرَّبِينَ، وَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ بَعْضُهُمْ: مَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لِلْعِرْفَانِ فَقَدْ قَالَ بِالثَّانِي، وَمَنْ آثَرَ الْعِرْفَانَ لَا لِلْعِرْفَانِ بَلْ لِلْمَعْرُوفِ فَقَدْ خَاضَ لُجَّةَ/ الْوُصُولِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْعِقَابِ فَقَدْ قَالَ فِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ فَحَكَمَ بِأَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِمْ نَصِيبًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى خَسَاسَةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَذْكُرْ أَلْبَتَّةَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا أَمْ لَا. وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ يُعْطِيهِمُ الدُّنْيَا، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَظِيمٌ عَلَى خَسَاسَةِ السَّعَادَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ وَالتَّرْغِيبِ فِي الْمَقَامَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ.
سورة هود (11) : آية 49تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّفْصِيلِ قَالَ: تِلْكَ أَيْ تِلْكَ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَتِلْكَ التَّفَاصِيلُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، أَيْ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي كَانَتْ غَائِبَةً عَنِ الْخَلْقِ فَقَوْلُهُ:
تِلْكَ فِي مَحَلِّ الرفع على الابتداء، ومِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ الخبر ونُوحِيها إِلَيْكَ خَبَرٌ ثَانٍ وَمَا بَعْدَهُ أَيْضًا خَبَرٌ ثَالِثٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ وَالْمَعْنَى: إِنَّكَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ هَذِهِ الْقِصَّةَ، بَلْ قَوْمُكَ مَا كَانُوا يَعْرِفُونَهَا أَيْضًا، وَنَظِيرُهُ أَنْ تَقُولَ لِإِنْسَانٍ لَا تَعْرِفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لَا أَنْتَ وَلَا أَهْلُ بَلَدِكَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ كَانَتْ قِصَّةُ طُوفَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْهُورَةً عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ؟
قُلْنَا: تِلْكَ الْقِصَّةُ بِحَسْبِ الْإِجْمَالِ كَانَتْ مَشْهُورَةً، أَمَّا التَّفَاصِيلُ الْمَذْكُورَةُ فَمَا كَانَتْ مَعْلُومَةً.
ثُمَّ قَالَ: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ وَالْمَعْنَى: يَا مُحَمَّدُ اصْبِرْ أَنْتَ وَقَوْمُكَ عَلَى أَذَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ وَقَوْمُهُ عَلَى أَذَى أُولَئِكَ الْكُفَّارِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ عَاقِبَتُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ وَالْفَرَحُ وَالسُّرُورُ كَمَا كَانَ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلِقَوْمِهِ.