نَفْسِ الضَّحِكِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ سِوَى الضَّحِكِ. أَمَّا الَّذِينَ حَمَلُوهُ عَلَى نَفْسِ الضَّحِكِ فَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا لِمَ ضَحِكَتْ، وَذَكَرُوا وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي إِنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا جَرَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهَا فَرِحَتْ بِزَوَالِ ذَلِكَ الْخَوْفِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ:
لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ وَعَظُمَ سُرُورُهَا بِسَبَبِ سُرُورِهِ بِزَوَالِ خَوْفِهِ، وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ قَدْ يَضْحَكُ الْإِنْسَانُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ كَانَ ضَحِكُهَا بِسَبَبِ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَخَفْ فَكَانَ كَالْبِشَارَةِ، فَقِيلَ لَهَا: نَجْعَلُ هَذِهِ الْبِشَارَةَ بِشَارَتَيْنِ، فَكَمَا حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ بِزَوَالِ الْخَوْفِ، فَقَدْ حَصَلَتِ الْبِشَارَةُ أَيْضًا بِحُصُولِ الْوَلَدِ الَّذِي كُنْتُمْ تَطْلُبُونَهُ مِنْ أَوَّلِ الْعُمْرِ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنَّهَا كَانَتْ عَظِيمَةَ الْإِنْكَارِ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالْعَمَلِ الْخَبِيثِ، فَلَمَّا أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ جَاءُوا لِإِهْلَاكِهِمْ لَحِقَهَا السُّرُورُ فَضَحِكَتْ. الثَّالِثُ:
قَالَ السُّدِّيُّ قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهُمْ: أَلا تَأْكُلُونَ قَالُوا: / لَا نَأْكُلُ طَعَامًا إِلَّا بِالثَّمَنِ، فَقَالَ: ثَمَنُهُ أَنْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُوهُ عَلَى آخِرِهِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ لِمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: «حُقَّ لِمِثْلِ هَذَا الرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا» فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ فَرَحًا مِنْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ سَارَّةَ قَالَتْ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْسِلْ إِلَى ابْنِ أَخِيكَ وَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ اللَّه تَعَالَى لَا يَتْرُكُ قَوْمَهُ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ، فَعِنْدَ تَمَامِ هَذَا الْكَلَامِ دَخَلَ الْمَلَائِكَةُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ صَارَ قَوْلُهُمْ مُوَافِقًا لِقَوْلِهَا، فَضَحِكَتْ لِشِدَّةِ سُرُورِهَا بِحُصُولِ الْمُوَافَقَةِ بَيْنَ كَلَامِهَا وَبَيْنَ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ. الْخَامِسُ:
أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا أَخْبَرُوا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا مِنَ الْبَشَرِ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ طَلَبَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهُمْ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَدَعَوْا رَبَّهُمْ بِإِحْيَاءِ الْعِجْلِ الْمَشْوِيِّ فَطَفَرَ ذَلِكَ الْعِجْلُ الْمَشْوِيُّ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَوْضُوعًا فِيهِ إِلَى مَرْعَاهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِمَةً فَضَحِكَتْ لَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ الْعِجْلَ الْمَشْوِيَّ قَدْ طَفَرَ مِنْ مَوْضِعِهِ. السَّادِسُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ تَعَجُّبًا مِنْ أَنَّ قَوْمًا أَتَاهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ. السَّابِعُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ بَشَّرُوهَا بِحُصُولِ مُطْلَقِ الْوَلَدِ فَضَحِكَتْ، إِمَّا عَلَى سَبِيلِ التَّعَجُّبِ فَإِنَّهُ يُقَالُ إِنَّهَا كَانَتْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِنْتَ بِضْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ مِائَةِ سَنَةٍ، وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ السُّرُورِ. ثُمَّ لَمَّا ضَحِكَتْ بَشَّرَهَا اللَّه تَعَالَى بِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ هُوَ إِسْحَاقُ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ. الثَّامِنُ: أَنَّهَا ضَحِكَتْ بِسَبَبِ أَنَّهَا تَعَجَّبَتْ مِنْ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ثَلَاثِ أَنْفُسٍ حَالَ مَا كَانَ مَعَهُ حَشَمُهُ وَخَدَمُهُ.
التَّاسِعُ: أَنَّ هَذَا عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ فَضَحِكَتْ سُرُورًا بِسَبَبِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ فَقُدِّمَ الضَّحِكُ، وَمَعْنَاهُ التَّأْخِيرُ. الثاني: هُوَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى فَضَحِكَتْ حَاضَتْ وَهُوَ منقول عن مجاهد وعكرمة قالا: ضحكت أَيْ حَاضَتْ عِنْدَ فَرَحِهَا بِالسَّلَامَةِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَمَّا ظَهَرَ حَيْضُهَا بُشِّرَتْ بِحُصُولِ الْوَلَدِ، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنْ يَكُونَ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ هَذِهِ اللُّغَةُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ عَرَفَهَا غَيْرُهُمْ، حَكَى اللَّيْثُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَضَحِكَتْ طَمِثَتْ، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ ضِحَاكِ الطَّلْعَةِ يُقَالُ ضَحِكَتِ الطَّلْعَةُ إِذَا انْشَقَّتْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ كُلَّهَا زَوَائِدُ. وَإِنَّمَا الْوَجْهُ الصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عاصم ويعقوب بِالنَّصْبِ وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ أَمَّا وَجْهُ