الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِ الْحَسَنَاتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَفَّارَاتٌ لِسَائِرِ الذُّنُوبِ بِشَرْطِ الِاجْتِنَابِ عَنِ الْكَبَائِرِ. وَالثَّانِي: رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْحَسَنَاتِ هِيَ قول العبد سبحانه اللَّه وَالْحَمْدُ للَّه وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه واللَّه أَكْبَرُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَشْرَفُ الْحَسَنَاتِ وَأَجَلُّهَا وَأَفْضَلُهَا. وَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، فَالْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْحَسَنَاتِ دَرَجَةً يُذْهِبُ الْكُفْرَ الَّذِي هُوَ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْعِصْيَانِ فَلَأَنْ يَقْوَى عَلَى الْمَعْصِيَةِ الَّتِي هِيَ أَقَلُّ السَّيِّئَاتِ دَرَجَةً كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ لَمْ يُفِدْ إِزَالَةَ الْعِقَابِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُفِيدَ إِزَالَةَ الْعَذَابِ الدَّائِمِ الْمُؤَبَّدِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ فَقَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ إِلَى آخِرِهَا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عِظَةٌ لِلْمُتَّعِظِينَ وَإِرْشَادٌ لِلْمُسْتَرْشِدِينَ.
ثُمَّ قَالَ: وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قِيلَ عَلَى الصَّلَاةِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها طه: 132 .
سورة هود (11) : آية 116فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْأُمَمَ الْمُتَقَدِّمِينَ حَلَّ بِهِمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ بَيَّنَ أَنَّ السَّبَبَ فِيهِ أَمْرَانِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَا كَانَ فِيهِمْ قَوْمٌ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ وَالْمَعْنَى فَهَلَّا كَانَ، وَحُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ كَلِمَةِ لَوْلَا فَمَعْنَاهُ هَلَّا إِلَّا الَّتِي فِي الصَّافَّاتِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَمَا صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ عَنْهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الصَّافَّاتِ لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ الْقَلَمِ: 49 وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ الْفَتْحِ: 25 وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا الإسراء: 74 ، وقوله: أُولُوا بَقِيَّةٍ فَالْمَعْنَى أُولُو فَضْلٍ وَخَيْرٍ، وَسُمِّيَ الْفَضْلُ وَالْجُودُ بَقِيَّةً لِأَنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمَّا يُخْرِجُهُ أَجْوَدَهُ وَأَفْضَلَهُ، فَصَارَ هَذَا اللَّفْظُ مَثَلًا فِي الْجَوْدَةِ يُقَالُ فُلَانٌ مِنْ بَقِيَّةِ الْقَوْمِ أَيْ مِنْ خِيَارِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الزَّوَايَا خَبَايَا وَفِي الرِّجَالِ بَقَايَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَقِيَّةُ بِمَعْنَى الْبَقْوَى كَالتَّقِيَّةِ بِمَعْنَى التَّقْوَى أَيْ فَهَلَّا كَانَ مِنْهُمْ ذُو بَقَاءٍ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَصِيَانَةٍ لها من سخط اللَّه تعالى وقرئ أُولُوا بَقِيَّةٍ بِوَزْنِ لُقْيَةٍ مِنْ بَقَّاهُ يُبَقِّيهِ إِذَا رَاقَبَهُ وَانْتَظَرَهُ، وَالْبَقِيَّةُ الْمَرَّةُ مِنْ مَصْدَرِهِ، وَالْمَعْنَى فَلَوْلَا كَانَ مِنْهُمْ أُولُو مُرَاقَبَةٍ وَخَشْيَةٍ مِنَ انْتِقَامِ اللَّه تَعَالَى. ثُمَّ قَالَ: إِلَّا قَلِيلًا وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِأُولِي الْبَقِيَّةِ فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنَ النَّاجِينَ مِنْهُمْ كَمَا تَقُولُ هَلَّا قَرَأَ قَوْمُكَ الْقُرْآنَ إِلَّا الصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ تُرِيدُ اسْتِثْنَاءَ الصُّلَحَاءِ مِنَ الْمُرَغَّبِينَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا: إِنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنَ الْقُرُونِ نَهَوْا عَنِ الْفَسَادِ وَسَائِرَهُمْ تَارِكُونَ لِلنَّهْيِ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: لِنُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ قَوْلُهُ: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَالتَّرَفُّهُ النِّعْمَةُ وَصَبِيٌّ مُتْرَفٌ إِذَا كَانَ مُنَعَّمَ الْبَدَنِ، وَالْمُتْرَفُ الَّذِي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ وَسَعَةُ الْمَعِيشَةِ وَأَرَادَ بِالَّذِينِ ظَلَمُوا تَارِكِي النَّهْيِ عن