في قوله تعالى وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ إلى قوله فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا طَرَحُوا يُوسُفَ فِي الْجُبِّ رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَقْتَ الْعِشَاءِ بَاكِينَ وَرَوَاهُ ابن جني/ عشا بِضَمِّ الْعَيْنِ وَالْقَصْرِ وَقَالَ: عَشَوْا مِنَ الْبُكَاءِ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَزِعَ يَعْقُوبُ وَقَالَ: هَلْ أَصَابَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا قَالَ: فَمَا فَعَلَ يُوسُفُ؟ قَالُوا: ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ فَبَكَى وَصَاحَ وَقَالَ: أَيْنَ الْقَمِيصُ؟ فَطَرَحَهُ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى تَخَضَّبَ وَجْهُهُ مِنْ دَمِ الْقَمِيصِ، وَرُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً تَحَاكَمَتْ إِلَى شُرَيْحٍ فَبَكَتْ فَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَا أَبَا أُمَيَّةَ مَا تَرَاهَا تَبْكِي؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ يَبْكُونَ وَهُمْ ظَلَمَةٌ كَذَبَةٌ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقْضِيَ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الِاسْتِبَاقِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يُسَابِقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الرَّمْيِ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي خُفٍّ أَوْ نَصْلٍ أَوْ حَافِرٍ»
يَعْنِي بِالنَّصْلِ الرَّمْيَ، وَأَصْلُ السَّبَقِ فِي الرَّمْيِ بِالسَّهْمِ هُوَ أَنْ يَرْمِيَ اثْنَانِ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا يَكُونُ أَسْبَقَ سَهْمًا وَأَبْعَدَ غَلْوَةً، ثُمَّ يُوصَفُ الْمُتَرَامِيَانِ بِذَلِكَ فَيُقَالُ: اسْتَبَقَا وَتَسَابَقَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّهُمَا أَسْبَقُ سَهْمًا وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّفْسِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه إِنَّا ذَهَبْنَا نَنْتَضِلُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِبَاقِ مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَسْتَبِقُ نَشْتَدُّ وَنَعْدُوَ لِيَتَبَيَّنَ أَيُّنَا أَسْرَعُ عَدْوًا.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَسْتَبِقُوا وَهُمْ رِجَالٌ بَالِغُونَ وَهَذَا مِنْ فِعْلِ الصِّبْيَانِ؟
قُلْنَا: الِاسْتِبَاقُ مِنْهُمْ كَانَ مِثْلَ الِاسْتِبَاقِ فِي الْخَيْلِ وَكَانُوا يُجَرِّبُونَ بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو ولأنه كَالْآلَةِ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُدَافَعَةِ الذِّئْبِ إِذَا اخْتَلَسَ الشَّاةَ وَقَوْلُهُ: فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ قِيلَ أَكَلَ الذِّئْبُ يُوسُفَ وَقِيلَ عَرَّضُوا وَأَرَادُوا أَكَلَ الذِّئْبُ الْمَتَاعَ، وَالْوَجْهُ هُوَ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالُوا: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُصَدِّقُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ صَادِقٌ، بَلِ الْمَعْنَى لَوْ كُنَّا عِنْدَكَ مِنْ أَهْلِ الثِّقَةِ وَالصِّدْقِ لَاتَّهَمْتَنَا فِي يُوسُفَ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِكَ إِيَّاهُ وَلَظَنَنْتَ أَنَّا قَدْ كَذَبْنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّا وَإِنْ كُنَّا صَادِقِينَ لَكِنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا لِأَنَّكَ تَتَّهِمُنَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: إِنَّا وَإِنْ كُنَّا صَادِقِينَ فَإِنَّكَ لَا تُصَدِّقُنَا لِأَنَّهُ لَمْ تَظْهَرْ عِنْدَكَ أَمَارَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنِ التَّصْدِيقِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أَيْ بِمُصَدِّقٍ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَجَبَ أَنْ يَبْقَى فِي عُرْفِ الشَّرْعِ كَذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ الْبَقَرَةِ: 3 .
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا جَاءُوا بِهَذَا الْقَمِيصِ الْمُلَطَّخِ بِالدَّمِ لِيُوهِمَ كَوْنَهُمْ صَادِقِينَ فِي مَقَالَتِهِمْ. قِيلَ: ذَبَحُوا جِدْيًا وَلَطَّخُوا ذَلِكَ الْقَمِيصَ بِدَمِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَلَعَلَّ غَرَضَهُمْ فِي نَزْعِ قَمِيصِهِ عِنْدَ إِلْقَائِهِ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ أَنْ يَفْعَلُوا هَذَا تَوْكِيدًا لِصِدْقِهِمْ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ طَمَعًا فِي نَفْسِ الْقَمِيصِ وَلَا بُدَّ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ يُقْرَنَ بِهَذَا الْخِذْلَانِ، فَلَوْ خَرَقُوهُ مَعَ لَطْخِهِ بِالدَّمِ لَكَانَ الْإِيهَامُ أَقْوَى، فَلَمَّا شاهد يعقوب الْقَمِيصَ صَحِيحًا عَلِمَ كَذِبَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أَيْ وَجَاءُوا فَوْقَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَمَا يُقَالُ: جَاءُوا عَلَى جِمَالِهِمْ بِأَحْمَالٍ.