وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَرِيئًا عَنِ الْعَمَلِ الْبَاطِلِ، وَالْهَمِّ الْمُحَرَّمِ، وَهَذَا قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَبِهِ نَقُولُ وَعَنْهُ نَذُبُّ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُوبِ عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَثِيرَةٌ، وَلَقَدِ اسْتَقْصَيْنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَا نُعِيدُهَا إِلَّا أَنَّا نَزِيدُ هاهنا وُجُوهًا:
فَالْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ الزِّنَا مِنْ مُنْكَرَاتِ الْكَبَائِرِ وَالْخِيَانَةَ فِي مَعْرِضِ الْأَمَانَةِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ الْعَظِيمِ بِالْإِسَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْفَضِيحَةِ التَّامَّةِ وَالْعَارِ الشَّدِيدِ أَيْضًا مِنْ مُنْكَرَاتِ الذُّنُوبِ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ إِذَا تَرَبَّى فِي حجر إنسان وبقي مكفي المؤنة مصون الغرض مِنْ أَوَّلِ صِبَاهُ إِلَى زَمَانِ شَبَابِهِ وَكَمَالِ قُوَّتِهِ فَإِقْدَامُ هَذَا الصَّبِيِّ عَلَى إِيصَالِ أَقْبَحِ أَنْوَاعِ الْإِسَاءَةِ إِلَى ذَلِكَ الْمُنْعِمِ الْمُعَظَّمِ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَعْمَالِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نَسَبُوهَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ مَوْصُوفَةً بِجَمِيعِ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْأَرْبَعِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ لَوْ نُسِبَتْ إِلَى أَفْسَقِ خَلْقِ اللَّه تَعَالَى وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ لَاسْتُنْكِفَ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِسْنَادُهَا إِلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ! الْمُؤَيَّدُ بِالْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ الْبَاهِرَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الواقعة: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ يوسف: 24 وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَاهِيَّةَ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ مَصْرُوفَةٌ عَنْهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ الَّتِي نسبوها إليه أعظم أنواع/ وَأَفْحَشُ أَقْسَامِ الْفَحْشَاءِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَشْهَدَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ بِكَوْنِهِ بَرِيئًا مِنَ السُّوءِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ أَنْوَاعِ السُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ. وَأَيْضًا فَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِنَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ هَبْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْبَالِغَ، فَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَحْكِيَ عَنْ إِنْسَانٍ إِقْدَامَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَظِيمَةٍ ثُمَّ إِنَّهُ يَمْدَحُهُ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِأَعْظَمِ الْمَدَائِحِ وَالْأَثْنِيَةِ عَقِيبَ أَنْ حَكَى عَنْهُ ذَلِكَ الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، فَإِنَّ مِثَالَهُ مَا إِذَا حَكَى السُّلْطَانُ عَنْ بَعْضِ عَبِيدِهِ أَقْبَحَ الذُّنُوبِ وَأَفْحَشَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ إِنَّهُ يَذْكُرُهُ بِالْمَدْحِ الْعَظِيمِ وَالثَّنَاءِ الْبَالِغِ عَقِيبَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسْتَنْكَرُ جِدًّا فَكَذَا هاهنا واللَّه أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مَتَى صَدَرَتْ مِنْهُمْ زَلَّةٌ، أَوْ هَفْوَةٌ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ وَأَتْبَعُوهَا بِإِظْهَارِ النَّدَامَةِ وَالتَّوْبَةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَلَوْ كان يوسف عليه السلام أقدم هاهنا عَلَى هَذِهِ الْكَبِيرَةِ الْمُنْكَرَةِ لَكَانَ مِنَ الْمُحَالِ أَنْ لَا يُتْبِعَهَا بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَلَوْ أَتَى بِالتَّوْبَةِ لَحَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ إِتْيَانَهُ بِهَا كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَا صَدَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ ذَنْبٌ وَلَا مَعْصِيَةٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِتِلْكَ الْوَاقِعَةِ فَقَدْ شَهِدَ بِبَرَاءَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِينَ لَهُمْ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْوَاقِعَةِ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتِلْكَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا، وَالنِّسْوَةُ وَالشُّهُودُ وَرَبُّ الْعَالَمِينَ شَهِدَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ الذَّنْبِ، وَإِبْلِيسُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ أَيْضًا عَنِ الْمَعْصِيَةِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ لَمْ يَبْقَ لِلْمُسْلِمِ تَوَقَّفٌ فِي هَذَا الْبَابِ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ادَّعَى الْبَرَاءَةَ عَنِ الذَّنْبِ فَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي يوسف: 26 وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ يُوسُفَ: 33 وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَرْأَةَ اعْتَرَفَتْ بِذَلِكَ فَلِأَنَّهَا قَالَتْ لِلنِّسْوَةِ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ يُوسُفَ: 32 وَأَيْضًا قَالَتْ: الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ يُوسُفَ: 51 وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ، فَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا