وَأَمَّا السُّؤَالُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدِ الْهَمُّ لَمْ يَبْقَ لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ. / فَنَقُولُ:
بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ، وَهُوَ بَيَانُ أَنَّ تَرْكَ الْهَمِّ بِهَا مَا كَانَ لِعَدَمِ رَغْبَتِهِ فِي النِّسَاءِ، وَعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِنَّ بَلْ لِأَجْلِ أَنَّ دَلَائِلَ دِينِ اللَّه مَنَعَتْهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَوَابَ لَوْلَا مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ لَوْلَا تَسْتَدْعِي جَوَابًا، وَهَذَا الْمَذْكُورُ يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَوَابًا لَهُ لَا يُقَالُ إِنَّا نُضْمِرُ لَهُ جَوَابًا، وَتَرْكُ الْجَوَابِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَا نِزَاعَ أَنَّهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، إِلَّا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْذُوفًا. وَأَيْضًا فَالْجَوَابُ إِنَّمَا يَحْسُنُ تَرْكُهُ وَحَذْفُهُ إِذَا حَصَلَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تعينه، وهاهنا بِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا فَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَعَيُّنِ ذَلِكَ الْجَوَابِ، فإن هاهنا أَنْوَاعًا مِنَ الْإِضْمَارَاتِ يَحْسُنُ إِضْمَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَلَيْسَ إِضْمَارُ بَعْضِهَا أَوْلَى مِنْ إِضْمَارِ الْبَاقِي فَظَهَرَ الْفَرْقُ. واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْهَمَّ قَدْ حَصَلَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَهَمَّ بِها لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْهَمِّ بِذَاتِ الْمَرْأَةِ مُحَالٌ لِأَنَّ الْهَمَّ مِنْ جِنْسِ الْقَصْدِ وَالْقَصْدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّوَاتِ الْبَاقِيَةِ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ فِعْلٍ مَخْصُوصٍ يَجْعَلُ مُتَعَلِّقَ ذَلِكَ الْهَمِّ وَذَلِكَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فَهُمْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الْمُضْمَرَ هُوَ إِيقَاعُ الْفَاحِشَةِ بِهَا وَنَحْنُ نُضْمِرُ شَيْئًا آخَرَ يُغَايِرُ مَا ذَكَرُوهُ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:
الْمُرَادُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْعِهَا عَنْ ذَلِكَ الْقَبِيحِ لِأَنَّ الْهَمَّ هُوَ الْقَصْدُ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ عَلَى الْقَصْدِ الَّذِي يَلِيقُ بِهِ، فَاللَّائِقُ بِالْمَرْأَةِ الْقَصْدُ إِلَى تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالتَّنَعُّمِ وَالتَّمَتُّعِ وَاللَّائِقُ بِالرَّسُولِ الْمَبْعُوثِ إِلَى الْخَلْقِ الْقَصْدُ إِلَى زَجْرِ الْعَاصِي عَنْ مَعْصِيَتِهِ وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، يُقَالُ:
هَمَمْتُ بِفُلَانٍ أَيْ بِضَرْبِهِ وَدَفْعِهِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يَبْقَى لِقَوْلِهِ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ فَائِدَةٌ.
قُلْنَا: بَلْ فِيهِ أَعْظَمُ الْفَوَائِدِ وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعْلَمَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَوْ هَمَّ بِدَفْعِهَا لَقَتَلَتْهُ أَوْ لَكَانَتْ تَأْمُرُ الْحَاضِرِينَ بِقَتْلِهِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ ضَرْبِهَا أَوْلَى صَوْنًا لِلنَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَوِ اشْتَغَلَ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرُبَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ، فَكَانَ يَتَمَزَّقُ ثَوْبُهُ مِنْ قُدَّامٍ، وَكَانَ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى أَنَّ الشَّاهِدَ يَشْهَدُ بِأَنَّ ثَوْبَهُ لَوْ تَمَزَّقَ مِنْ قُدَّامٍ لَكَانَ يُوسُفُ هُوَ الْخَائِنَ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبُهُ مُمَزَّقًا مِنْ خَلْفٍ لَكَانَتِ الْمَرْأَةُ هِيَ الْخَائِنَةُ، فاللَّه تَعَالَى أَعْلَمَهُ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَلَا جَرَمَ لَمْ يَشْتَغِلْ بِدَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ بَلْ وَلَّى هَارِبًا عَنْهَا، حَتَّى صَارَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ حُجَّةً لَهُ عَلَى بَرَاءَتِهِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِالشَّهْوَةِ، وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ الشَّائِعَةِ. يَقُولُ الْقَائِلُ: فِيمَا لَا يَشْتَهِيهِ مَا يَهُمُّنِي هَذَا، وَفِيمَا يَشْتَهِيهِ هَذَا أَهَمُّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، فَسَمَّى اللَّه تَعَالَى شَهْوَةَ يُوسُفَ/ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمًّا، فَمَعْنَى الْآيَةِ: وَلَقَدِ اشْتَهَتْهُ وَاشْتَهَاهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَدَخَلَ ذَلِكَ الْعَمَلُ فِي الْوُجُودِ. الثَّالِثُ: أَنْ يُفَسَّرَ الْهَمُّ بِحَدِيثِ النَّفْسِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْفَائِقَةَ فِي الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ إِذَا تَزَيَّنَتْ وَتَهَيَّأَتْ لِلرَّجُلِ الشَّابِّ الْقَوِيِّ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَقَعَ هُنَاكَ بَيْنَ الْحِكْمَةِ وَالشَّهْوَةِ الطَّبِيعِيَّةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ وَالْعَقْلِ مُجَاذَبَاتٌ وَمُنَازَعَاتٌ، فَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الطَّبِيعَةِ وَالشَّهْوَةِ وَتَارَةً تَقْوَى دَاعِيَةُ الْعَقْلِ وَالْحِكْمَةِ. فَالْهَمُّ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الطَّبِيعَةِ، وَرُؤْيَةُ الْبُرْهَانِ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَاذِبِ الْعُبُودِيَّةِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الصَّالِحَ الصَّائِمَ فِي الصَّيْفِ الصَّائِفِ، إِذَا رأى الجلاب المبرد بالثلج فَإِنَّ طَبِيعَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى شُرْبِهِ، إِلَّا أَنَّ دِينَهُ وَهُدَاهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ، فَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الذَّنْبِ، بَلْ كُلَّمَا كَانَتْ هَذِهِ