دُهِشَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تُمَيِّزُ نِصَابَهَا مِنْ حَدِيدِهَا وَكَانَتْ تَأْخُذُ الْجَانِبَ الْحَادَّ مِنْ ذَلِكَ السِّكِّينِ بِكَفِّهَا فَكَانَ يَحْصُلُ الْجِرَاحَةُ فِي كَفِّهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اتَّفَقَ الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ بِحَسَبِ الْجَمَالِ الْفَائِقِ وَالْحُسْنِ الْكَامِلِ قِيلَ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى النَّاسِ فِي الْفَضْلِ وَالْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَرَرْتُ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْلَةَ عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا يُوسُفُ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ»
وَقِيلَ: كَانَ يُوسُفُ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مِصْرَ يُرَى تَلَأْلُؤُ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ كَمَا يُرَى نُورُ الشَّمْسِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: كَانَ يُشْبِهُ آدَمَ يَوْمَ خَلَقَهُ رَبُّهُ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَعِنْدِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُنَّ إِنَّمَا أَكْبَرْنَهُ لِأَنَّهُنَّ رَأَيْنَ عَلَيْهِ نُورَ النُّبُوَّةِ وَسِيمَا الرسالة، وآثار الخضوع والاحتشام، وشاهدن منها مَهَابَةَ النُّبُوَّةِ، وَهَيْئَةَ الْمَلَكِيَّةِ وَهِيَ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَطْعُومِ وَالْمَنْكُوحِ، وَعَدَمُ الِاعْتِدَادِ بِهِنَّ، وَكَانَ الْجَمَالُ الْعَظِيمُ مَقْرُونًا بِتِلْكَ الْهَيْبَةِ وَالْهَيْئَةِ فَتَعَجَّبْنَ مِنْ تِلْكَ/ الْحَالَةِ فَلَا جَرَمَ أَكْبَرْنَهُ وَعَظَّمْنَهُ، وَوَقَعَ الرُّعْبُ وَالْمَهَابَةُ مِنْهُ فِي قُلُوبِهِنَّ، وَعِنْدِي أَنَّ حَمْلَ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَكَيْفَ يَنْطَبِقُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهَا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَكَيْفَ تَصِيرُ هَذِهِ الْحَالَةُ عُذْرًا لَهَا فِي قُوَّةِ الْعِشْقِ وَإِفْرَاطِ الْمَحَبَّةِ؟
قُلْنَا: قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَمْنُوعَ مَتْبُوعٌ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ لَهُنَّ مَعَ هَذَا الْخُلُقِ الْعَجِيبِ وَهَذِهِ السِّيرَةِ الْمَلَكِيَّةِ الطَّاهِرَةِ الْمُطَهَّرَةِ فَحُسْنُهُ يُوجِبُ الْحُبَّ الشَّدِيدَ وَسِيرَتُهُ الْمَلَكِيَّةُ تُوجِبُ الْيَأْسَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَتْ فِي الْمَحَبَّةِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالْأَرَقِ وَالْقَلَقِ، وَهَذَا الْوَجْهُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ أَحْسَنُ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَقُلْنَ حَاشَا للَّه بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ بَعْدَ الشِّينِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَصْمَعِيِّ عَنْ نَافِعٍ وَهِيَ الْأَصْلُ لِأَنَّهَا مِنَ الْمُحَاشَاةِ وَهِيَ التَّنْحِيَةُ وَالتَّبْعِيدُ، وَالْبَاقُونَ بِحَذْفِ الْأَلِفِ للتخفيف وكثرة دورها على الألسن اتباعا للمصحف «وحاشا» كلمة يفيد معنى التنزيه، والمعنى هاهنا تَنْزِيهُ اللَّه تَعَالَى مِنَ الْمُعْجِزِ حَيْثُ قَدَرَ على خلق جميل مثله. أما قَوْلُهُ: حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فَالتَّعَجُّبُ مِنْ قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ عَفِيفٍ مِثْلِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فِيهِ وَجْهَانِ:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ إِثْبَاتُ الْحُسْنِ الْعَظِيمِ لَهُ قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى رَكَّزَ فِي الطِّبَاعِ أَنْ لَا حَيَّ أَحْسَنُ مِنَ الْمَلَكِ، كَمَا رَكَّزَ فِيهَا أَنْ لَا حَيَّ أَقْبَحُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى في صفة جهنم طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الصَّافَّاتِ: 65 وَذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَقْبَحَ الْأَشْيَاءِ هُوَ الشَّيْطَانُ فكذا هاهنا تَقَرَّرَ فِي الطِّبَاعِ أَنَّ أَحْسَنَ الْأَحْيَاءِ هُوَ الْمَلَكُ، فَلَمَّا أَرَادَتِ النِّسْوَةُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحُسْنِ لَا جَرَمَ شَبَّهْنَهُ بِالْمَلَكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَقْرَبُ عِنْدِي أَنَّ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مُطَهَّرُونَ عَنْ بَوَاعِثِ الشَّهْوَةِ، وَجَوَاذِبِ الْغَضَبِ، وَنَوَازِعِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ فَطَعَامُهُمْ تَوْحِيدُ اللَّه تَعَالَى وَشَرَابُهُمُ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ النِّسْوَةَ لَمَّا رَأَيْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِنَّ الْبَتَّةَ وَرَأَيْنَ عَلَيْهِ هَيْبَةَ النُّبُوَّةِ وَهَيْبَةَ الرِّسَالَةِ، وَسِيمَا الطَّهَارَةِ قُلْنَ إِنَّا مَا رَأَيْنَا فِيهِ أَثَرًا مِنْ أَثَرِ الشَّهْوَةِ، وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا صِفَةً مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ، فَهَذَا قَدْ تَطَهَّرَ عَنْ جَمِيعِ الصِّفَاتِ الْمَغْرُوزَةِ فِي الْبَشَرِ، وَقَدْ تَرَقَّى عَنْ حَدِّ الْإِنْسَانِيَّةِ وَدَخَلَ فِي الْمَلَكِيَّةِ.