الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «كَمِ الْبِضْعُ» قَالُوا اللَّه وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: «مَا دُونَ الْعَشَرَةِ»
واتفق الأكثرون على أن المراد هاهنا بِبِضْعِ سِنِينَ، سَبْعُ سِنِينَ قَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كَانَ قَدْ بَقِيَ فِي السِّجْنِ خَمْسَ سِنِينَ ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا تَضَرَّعَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ كَانَ قَدِ اقْتَرَبَ وَقْتُ خُرُوجِهِ فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ لَبِثَ فِي السِّجْنِ بَعْدَهُ سَبْعَ سِنِينَ،
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ رَوَى قَوْلَهُ صَلَوَاتُ اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: «رَحِمَ اللَّه يُوسُفَ لَوْلَا الْكَلِمَةُ الَّتِي قَالَهَا لَمَا لَبِثَ فِي السِّجْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ» ثُمَّ بَكَى الْحَسَنُ وَقَالَ: نَحْنُ إِذَا نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ تَضَرَّعْنَا إِلَى الناس.
سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 44وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابًا، وَلَمَّا دَنَا فَرَجُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى مَلِكُ مِصْرَ فِي النَّوْمِ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ خَرَجْنَ مِنْ نَهْرٍ يَابِسٍ وَسَبْعَ بَقَرَاتٍ عِجَافٍ فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ، وَرَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهَا، وَسَبْعًا أُخَرَ يَابِسَاتٍ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى غَلَبْنَ عَلَيْهَا فَجَمَعَ الْكَهَنَةَ وَذَكَرَهَا لَهُمْ وهو المراد من قوله: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ فقال القوم هذه الرؤيا مختلطة فلا تقدر عَلَى تَأْوِيلِهَا وَتَعْبِيرِهَا، فَهَذَا ظَاهِرُ الْكَلَامِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ اللَّيْثُ: الْعَجَفُ ذَهَابُ السِّمَنِ وَالْفِعْلُ عَجِفَ يَعْجَفُ وَالذَّكَرُ أَعْجَفُ وَالْأُنْثَى عَجْفَاءُ وَالْجَمْعُ عِجَافٌ فِي الذُّكْرَانِ وَالْإِنَاثِ. وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَفْعَلُ وَفَعْلَاءُ جَمْعًا عَلَى فِعَالٍ غَيْرَ أَعْجَفَ وَعِجَافٍ وَهِيَ شَاذَّةٌ حَمَلُوهَا عَلَى لَفْظِ سِمَانٍ فَقَالُوا: سِمَانٌ وَعِجَافٌ لِأَنَّهُمَا نَقِيضَانِ وَمِنْ دَأْبِهِمْ حَمْلُ النَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، والنقيض على النقيض، واللام في قوله: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ عَلَى قَوْلِ الْبَعْضِ زَائِدَةٌ لِتَقَدُّمِ الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَا خَبَرَ كَانَ كَمَا تَقُولُ: كَانَ فُلَانٌ لِهَذَا الْأَمْرِ إِذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ وَتَعْبُرُونَ خَبَرًا آخَرَ أَوْ حَالًا، وَيُقَالُ عَبَرْتُ الرُّؤْيَا أَعْبُرُهَا عِبَارَةً وَعَبَّرْتُهَا تَعْبِيرًا إِذَا فَسَّرْتَهَا، وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ هَذَا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُبْرِ، وَهُوَ جَانِبُ النَّهَرِ وَمَعْنَى عَبَرْتُ النَّهَرَ، وَالطَّرِيقَ قَطَعْتُهُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَقِيلَ لِعَابِرِ الرُّؤْيَا عَابِرٌ، لِأَنَّهُ يَتَأَمَّلُ جَانِبَيِ الرُّؤْيَا فَيَتَفَكَّرُ فِي أَطْرَافِهَا وَيَنْتَقِلُ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَالْأَضْغَاثُ جَمْعُ الضِّغْثِ وَهُوَ الْحُزْمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ النَّبْتِ وَالْحَشِيشِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا قَامَ عَلَى سَاقٍ وَاسْتَطَالَ قَالَ تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ص: 44 .
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الرُّؤْيَا إِنْ كَانَتْ مَخْلُوطَةً مِنْ أَشْيَاءَ غَيْرِ مُتَنَاسِبَةٍ كَانَتْ شَبِيهَةً بِالضِّغْثِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ تِلْكَ الرُّؤْيَا سَبَبًا لِخَلَاصِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السِّجْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا قَلِقَ وَاضْطَرَبَ بِسَبَبِهِ، لِأَنَّهُ شَاهَدَ أَنَّ النَّاقِصَ الضَّعِيفَ اسْتَوْلَى عَلَى الْكَامِلِ الْقَوِيِّ فَشَهِدَتْ فِطْرَتُهُ بِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَيِّدٍ وَأَنَّهُ مُنْذِرٌ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الشَّرِّ، إِلَّا أَنَّهُ مَا عَرَفَ كَيْفِيَّةَ الْحَالِ فِيهِ وَالشَّيْءُ إِذَا صَارَ مَعْلُومًا مِنْ وَجْهٍ وَبَقِيَ مَجْهُولًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَظُمَ تَشَوُّفُ النَّاسِ إِلَى تَكْمِيلِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَقَوِيَتِ الرَّغْبَةُ فِي إِتْمَامِ النَّاقِصِ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْإِنْسَانُ عَظِيمَ الشَّأْنِ وَاسِعَ الْمَمْلَكَةِ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ دَالًّا عَلَى الشَّرِّ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ