الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُصِيبَةَ فِي يُوسُفَ كَانَتْ أَصْلَ مَصَائِبِهِ الَّتِي عَلَيْهَا تَرَتَّبَ سَائِرُ الْمَصَائِبِ وَالرَّزَايَا، وَكَانَ الْأَسَفُ عَلَيْهِ أَسَفًا عَلَى الْكُلِّ. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذِهِ الْمَصَائِبَ الْجَدِيدَةَ كَانَتْ أَسْبَابُهَا جَارِيَةً مَجْرَى الْأُمُورِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا وَالْبَحْثُ عَنْهَا. وَأَمَّا وَاقِعَةُ يُوسُفَ فَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ، وَأَمَّا السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ فَمَا كَانَ مَعْلُومًا لَهُ، وَأَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ فِي الْحَيَاةِ وَأَمَّا يُوسُفُ فَمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَيِّتٌ، فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ عَظُمَ وَجْدُهُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ وَقَوِيَتْ مُصِيبَتُهُ عَلَى الْجَهْلِ بِحَالِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: مِنَ الْجُهَّالِ مَنْ عاب يعقوب عليه السلام على قوله: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ قَالَ: لِأَنَّ هَذَا إِظْهَارٌ لِلْجَزَعِ وَجَارٍ مَجْرَى الشِّكَايَةِ مِنَ اللَّه وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالْعُلَمَاءُ بَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ هَذَا الْجَاهِلُ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ ثُمَّ عَظُمَ بُكَاؤُهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ثُمَّ أَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ النِّيَاحَةِ، وَذِكْرِ مالا يَنْبَغِي، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ كَظِيمٌ ثُمَّ إِنَّهُ مَا أَظْهَرَ الشِّكَايَةَ مَعَ أَحَدٍ من الخلق بدليل قوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا عَظُمَتْ مُصِيبَتُهُ وَقَوِيَتْ مِحْنَتُهُ فَإِنَّهُ صَبَرَ وَتَجَرَّعَ الْغُصَّةَ وَمَا أَظْهَرَ الشِّكَايَةَ فَلَا جَرَمَ اسْتَوْجَبَ بِهِ الْمَدْحَ الْعَظِيمَ وَالثَّنَاءَ الْعَظِيمَ.
رُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ جِبْرِيلَ/ هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِيَعْقُوبَ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ: وَكَيْفَ حُزْنُهُ؟ قَالَ: حُزْنُ سَبْعِينَ ثَكْلَى وَهِيَ الَّتِي لَهَا وَلَدٌ وَاحِدٌ ثُمَّ يَمُوتُ. قَالَ: فَهَلْ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ قَالَ: نَعَمْ أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ.
فَإِنْ قِيلَ:
رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ قَالَ: مَرَّ بِيَعْقُوبَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ لَهُ أَنْتَ إِبْرَاهِيمُ فَقَالَ: أَنَا ابْنُ ابْنِهِ وَالْهُمُومُ غَيَّرَتْنِي وَذَهَبَتْ بِحُسْنِي وَقُوَّتِي، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ: «حَتَّى مَتَى تَشْكُونِي إِلَى عِبَادِي وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوْ لَمْ تشكني لأبدلنك لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِكَ وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِكَ» فَكَانَ مِنْ بَعْدُ يَقُولُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ لِيَعْقُوبَ أَخٌ مُوَاخٍ» فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرَكَ وَقَوَّسَ ظَهْرَكَ فَقَالَ الَّذِي أَذْهَبَ بَصَرِي الْبُكَاءُ عَلَى يُوسُفَ وَقَوَّسَ ظَهْرِي الْحُزْنُ عَلَى بِنْيَامِينَ، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ «أَمَا تَسْتَحِي تَشْكُونِي إِلَى غَيْرِي» فَقَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه، فَقَالَ يَا رَبِّ أَمَا تَرْحَمُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ قَوَّسْتَ ظَهْرِي، وَأَذْهَبْتَ بَصَرِي، فَارْدُدْ عَلَيَّ رَيْحَانَتَيَّ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْبُشْرَى وَقَالَ: لَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ لَنَشَرْتُهُمَا لَكَ فَاصْنَعْ طَعَامًا لِلْمَسَاكِينِ، فَإِنَّ أَحَبَّ عِبَادِي إِلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمَسَاكِينُ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَرَادَ الْغَدَاءَ نَادَى مُنَادِيهِ مَنْ أَرَادَ الْغَدَاءَ فَلْيَتَغَدَّ مَعَ يَعْقُوبَ، وَإِذَا كَانَ صَائِمًا نَادَى مِثْلَهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُ حَاجِبَيْهِ بِخِرْقَةٍ مِنَ الْكِبَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَاهُ بِكَ، قَالَ طُولُ الزَّمَانِ وَكَثْرَةُ الْأَحْزَانِ، فَأَوْحَى اللَّه إِلَيْهِ «أَتَشْكُونِي يَا يَعْقُوبُ» فَقَالَ: يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْهَا لِي.
قُلْنَا: إِنَّا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ إِلَّا بِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ وَتَرْكِ النِّيَاحَةِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ لَهُ: جِئْتَ لِتَقْبِضَنِي قَبْلَ أَنْ أَرَى حَبِيبَيَّ فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ جِئْتُ لِأَحْزَنَ لِحُزْنِكَ وَأَشْجُوَ لَشَجْوِكَ،
وَأَمَّا الْبُكَاءُ فَلَيْسَ مِنَ الْمَعَاصِي.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: بَكَى عَلَى وَلَدِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: «إِنَّ الْقَلْبَ لَيَحْزَنُ وَالْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَلَا نَقُولُ: مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ وَإِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ»
وَأَيْضًا فَاسْتِيلَاءُ الْحُزْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَأَمَّا التَّأَوُّهُ وَإِرْسَالُ الْبُكَاءِ فَقَدْ يَصِيرُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذَكَرْتُمْ فَالْمُعَاتَبَةُ فِيهَا إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ. وَأَيْضًا فَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ التَّحَيُّرِ وَالتَّرَدُّدِ