الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِهَذَا الصَّوْتِ الْمَخْصُوصِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ يُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا لَيْسَ إِلَّا وُجُودَ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ حدوث هذا الصوت دليلا على وجود مُتَعَالٍ عَنِ النَّقْصِ وَالْإِمْكَانِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَسْبِيحًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ الْإِسْرَاءِ: 44 .
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الرَّعْدِ مُسَبِّحًا أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الرَّعْدَ فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أُضِيفَ هَذَا التَّسْبِيحُ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مِنْ كَلِمَاتِ الصُّوفِيَّةِ الرَّعْدُ صَعْقَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَرْقُ زَفَرَاتُ أَفْئِدَتِهِمْ، وَالْمَطَرُ بُكَاؤُهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حَقِيقَةُ الرَّعْدِ؟
قُلْنَا: اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ الْبَقَرَةِ: 19 .
أما قوله: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: عَنَى بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانَ الرَّعْدِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَهُ أَعْوَانًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُمْ خَائِفُونَ مِنَ اللَّهِ لَا كَخَوْفِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا شَيْءٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِقُوًى رُوحَانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، فَلِلسَّحَابِ رُوحٌ مُعِينٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ وَفِي سَائِرِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ العبارة هو عين مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْحُكَمَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ الْإِنْكَارُ؟
النوع الرَّابِعُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الصَّوَاعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَامِرِ/ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمَانِهِ وَيُجَادِلَانِهِ، وَيُرِيدَانِ الْفَتْكَ بِهِ، فَقَالَ أَرْبَدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّنَا أَمِنْ نُحَاسٍ هُوَ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَرْبَدُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَرَمَى عَامِرًا بِغُدَّةٍ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَاتَ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الصَّاعِقَةِ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَارَةً تَتَوَلَّدُ مِنَ السَّحَابِ، وَإِذَا نَزَلَتْ مِنَ السَّحَابِ فَرُبَّمَا غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ وَأَحْرَقَتِ الْحِيتَانَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَالْحُكَمَاءُ بَالَغُوا فِي وَصْفِ قُوَّتِهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَطَبِيعَتُهَا ضِدُّ طَبِيعَةِ السَّحَابِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ طَبِيعَتُهَا فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ أَضْعَفَ مِنْ طَبِيعَةِ النِّيرَانِ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْعَادَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَقْوَى نِيرَانِ هَذَا الْعَالَمِ، فَثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَهَا بِمَزِيدِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ دَلَائِلَ كَمَالِ عِلْمِهِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى الرَّعْدِ: 8 وَبَيَّنَ دَلَائِلَ كمال القدرة في هذه الآيات.