الثَّلَاثَةِ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا يَعْنِي عَاقِبَةُ أَهْلِ التَّقْوَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَعَاقِبَةُ الْكَافِرِينَ النَّارُ. وَحَاصِلُ الْكَلَامِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ ثَوَابَ الْمُتَّقِينَ مَنَافِعُ خَالِصَةٌ عَنِ الشَّوَائِبِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَةِ الدَّوَامِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: أُكُلُها دائِمٌ فِيهِ مَسَائِلُ ثَلَاثٌ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أُكُلَ الْجَنَّةِ لَا تَفْنَى كَمَا يُحْكَى عَنْ جَهْمٍ وَأَتْبَاعِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَرَكَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا تَنْتَهِي إِلَى سُكُونٍ دَائِمٍ، كَمَا يَقُولُهُ أَبُو الْهُذَيْلِ وَأَتْبَاعُهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ لَمْ تُخْلَقْ بَعْدُ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَخْلُوقَةً لَوَجَبَ أَنْ تَفْنَى وَأَنْ يَنْقَطِعَ أُكُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ الرحمن: 26 . وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ الْقَصَصِ: 88 لَكِنْ لَا يَنْقَطِعُ أُكُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: أُكُلُها دائِمٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْجَنَّةُ مَخْلُوقَةً. ثم قال:
فلا ننكر أن يحصل الآن في السموات جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ وَمَنْ يُعَدُّ حَيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالشُّهَدَاءِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي نَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ جَنَّةَ الْخُلْدِ خَاصَّةً إِنَّمَا تُخْلَقُ بَعْدَ الْإِعَادَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ دَلِيلَهُمْ مُرَكَّبٌ مِنْ آيَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا: قَوْلُهُ: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ وَالْأُخْرَى قَوْلُهُ:
أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها فَإِذَا أَدْخَلْنَا التَّخْصِيصَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ سَقَطَ دَلِيلُهُمْ فَنَحْنُ نُخَصِّصُ أَحَدَ هَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ بِالدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ مَخْلُوقَةٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ آل عمران: 133 .
سورة الرعد (13) : آية 36وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
اعْلَمْ أَنَّ فِي الْمُرَادِ بِالْكِتَابِ قَوْلَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْقُرْآنُ وَالْمُرَادُ أَنَّ أَهْلَ الْقُرْآنِ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ مِنْ أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْبَعْثِ وَالْأَحْكَامِ وَالْقَصَصِ وَمِنَ الْأَحْزَابِ الْجَمَاعَاتُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ.
فَإِنْ قِيلَ: الْأَحْزَابُ يُنْكِرُونَ كُلَّ الْقُرْآنِ.
قُلْنَا: الْأَحْزَابُ لَا يُنْكِرُونَ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّهُ وَرَدَ فِيهِ إِثْبَاتُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِثْبَاتُ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَأَقَاصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْأَحْزَابُ، مَا كَانُوا يُنْكِرُونَ كُلَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَفِي الْآيَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ هُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَأَصْحَابِهِمَا وَمَنْ أَسْلَمَ مِنَ النَّصَارَى وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ بِنَجْرَانَ وَثَمَانِيَةٌ بِالْيَمَنِ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ وَفَرِحُوا بِالْقُرْآنِ، لِأَنَّهُمْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَالْأَحْزَابُ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا الوجه أَوْلَى مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ مَنْ أُوتِيَ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِالْقُرْآنِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الوجه ظَهَرَتِ الْفَائِدَةُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْقُرْآنَ يَزْدَادُ فَرَحُهُمْ بِهِ لِمَا رَأَوْا فِيهِ مِنَ الْعُلُومِ الْكَثِيرَةِ والفوائد العظيمة،