لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْحَمِيدِ إِلَّا الَّذِي اسْتَحَقَّ الْحَمْدَ، فَثَبَتَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ غَنِيًّا حَمِيدًا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَزْدَادَ بِشُكْرِ الشَّاكِرِينَ، وَلَا يَنْتَقِصَ بِكُفْرَانِ الْكَافِرِينَ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ وَهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ لَطَائِفِ الْأَسْرَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَنَا: إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً سَوَاءٌ حُمِلَ عَلَى الْكُفْرِ الَّذِي يُقَابِلُ الْإِيمَانَ أَوْ عَلَى الْكُفْرَانِ الَّذِي يُقَابِلُ الشُّكْرَ، فَالْمَعْنَى لَا يَتَفَاوَتُ الْبَتَّةَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ فِي كَمَالَاتِهِ وَفِي جَمِيعِ نُعُوتِ كِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَذَكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لِقَوْمِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُخَوِّفُهُمْ بِمِثْلِ هَلَاكِ مَنْ تَقَدَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبَةً مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى لِسَانِ مُوسَى لِقَوْمِهِ يُذَكِّرُهُمْ أَمْرَ الْقُرُونِ الْأُولَى، وَالْمَقْصُودُ إِنَّمَا هُوَ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَحْوَالِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ إِلَّا أَنَّ الْأَكْثَرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ ابْتِدَاءُ مُخَاطَبَةٍ لِقَوْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَقْوَامًا ثَلَاثَةً، وَهُمْ: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ.
ثم قال تَعَالَى: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَذَكَرَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِيهِ احْتِمَالَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جُمْلَةً مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ وَقَعَتِ اعْتِرَاضًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْلُهُ: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا يَعْلَمُ كُنْهَ مَقَادِيرِهِمْ إِلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ جُمْلَةٌ فَأَمَّا ذِكْرُ الْعَدَدِ وَالْعُمُرِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فَغَيْرُ حَاصِلٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ أَقْوَامٍ مَا بَلَغَنَا أَخْبَارُهُمْ أَصْلًا كَذَّبُوا رُسُلًا لَمْ نَعْرِفْهُمْ أَصْلًا، وَلَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ الثَّانِي طَعَنُوا فِي قَوْلِ مَنْ يَصِلُ الْأَنْسَابَ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ يَقُولُ كَذَبَ النَّسَّابُونَ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَدَّعُونَ عِلْمَ الْأَنْسَابِ وَقَدْ نَفَى اللَّهُ عِلْمَهَا عَنِ الْعِبَادِ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً الْفُرْقَانِ: 38 وَقَوْلُهُ: مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ غَافِرٍ: 78
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ فِي انْتِسَابِهِ لَا يُجَاوِزُ مَعَدَّ بْنَ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ. وَقَالَ: «تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَسْتَدِلُّونَ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ»
قَالَ الْقَاضِي: وَعَلَى هَذَا الوجه لَا يُمْكِنُ الْقَطْعُ عَلَى مِقْدَارِ السِّنِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ، لِأَنَّهُ إِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ أَيْضًا تَحْصِيلُ الْعِلْمِ بِالْأَنْسَابِ الْمَوْصُولَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى؟
قُلْنَا: الْقَوْلُ الثَّانِي عِنْدِي أَقْرَبُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ نَفَى الْعِلْمَ بِهِمْ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي/ نَفْيَ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ إِذْ لَوْ كَانَتْ ذَوَاتُهُمْ مَعْلُومَةً، وَكَانَ الْمَجْهُولُ هُوَ مُدَدَ أَعْمَارِهِمْ وَكَيْفِيَّةَ صِفَاتِهِمْ لَمَا صَحَّ نَفْيُ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِذَوَاتِهِمْ لَا جَرَمَ كَانَ الْأَقْرَبُ هُوَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ أَتَوْا بأمور: أولها: