سُورَةِ الْوَاقِعَةِ فَإِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا حِكَايَةً عن أصحاب الشمال أنهم كانوا يقولون: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
الْوَاقِعَةِ: 47- 50 ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ عَلَى إِمْكَانِهِ بِأُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ الْوَاقِعَةِ: 58، 59 وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَنِيَّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ فَضْلَةِ الْهَضْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ كَالطَّلِّ الْمُنْبَثِّ فِي آفَاقِ أَطْرَافِ الْأَعْضَاءِ وَلِهَذَا تَشْتَرِكُ الأعضاء في الالتذاذ بالوقوع بِحُصُولِ الِانْحِلَالِ عَنْهَا كُلِّهَا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَلَّطَ قُوَّةَ الشَّهْوَةِ عَلَى الْبَقِيَّةِ حَتَّى أَنَّهَا تَجْمَعُ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ الطَّلِّيَّةَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً جِدًّا، أَوَّلًا فِي أَطْرَافِ الْعَالَمِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى جَمَعَهَا فِي بَدَنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ، ثُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً فِي أَطْرَافِ بَدَنِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ فَجَمَعَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي أَوْعِيَةِ الْمَنِيِّ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَخْرَجَهَا مَاءً دَافِقًا إِلَى قَرَارِ الرَّحِمِ فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْزَاءُ مُتَفَرِّقَةً فَجَمَعَهَا وَكَوَّنَ مِنْهَا ذَلِكَ الشَّخْصَ، فَإِذَا افْتَرَقَتْ بِالْمَوْتِ مَرَّةً أُخْرَى فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ جَمْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى؟ فَهَذَا تَقْرِيرُ هَذِهِ الْحُجَّةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذكرها فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، مِنْهَا فِي سُورَةِ الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ إلى قوله: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ثُمَّ قَالَ: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ الْحَجِّ: 5- 7 وَقَالَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ ذِكْرِ مَرَاتِبِ الْخِلْقَةِ: ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ الْمُؤْمِنُونَ: 15، 16 وَقَالَ فِي سورة لا أقسم: أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى القيامة: 37، 38 وَقَالَ فِي سُورَةِ الطَّارِقِ:
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ الطَّارِقِ: 5- 8 .
وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ إِلَى قَوْلِهِ: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ الْوَاقِعَةِ: 63- 67 وَجْهُ الاستدلال به أن الحب وأقسامه/ من مُطَوَّلٌ مَشْقُوقٌ وَغَيْرُ مَشْقُوقٍ، كَالْأُرْزِ وَالشَّعِيرِ، وَمُدَوَّرٌ وَمُثَلَّثٌ وَمُرَبَّعٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْمَاءُ وَالتُّرَابُ، فَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ يَقْتَضِي أَنْ يَتَعَفَّنَ وَيَفْسُدَ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي فِي حُصُولِ الْعُفُونَةِ، فَفِيهِمَا جَمِيعًا أَوْلَى، ثُمَّ إِنَّهُ لَا يَفْسُدُ بَلْ يَبْقَى مَحْفُوظًا، ثُمَّ إِذَا ازْدَادَتِ الرُّطُوبَةُ تَنْفَلِقُ الْحَبَّةُ فِلْقَتَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهَا وَرَقَتَانِ، وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَيَظْهَرُ فِي رَأْسِهِ ثُقْبٌ وَتَظْهَرُ الْوَرَقَةُ الطَّوِيلَةُ كَمَا فِي الزَّرْعِ، وَأَمَّا النَّوَى فَمَا فِيهِ مِنَ الصَّلَابَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بِسَبَبِهَا يَعْجِزُ عَنْ فَلْقِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ إِذَا وَقَعَ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ يَنْفَلِقُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَنَوَاةُ التَّمْرِ تَنْفَلِقُ مِنْ نُقْرَةٍ عَلَى ظَهْرِهَا وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ النَّوَاةِ مِنْ نِصْفَيْنِ يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِ النِّصْفَيْنِ الْجُزْءُ الصَّاعِدُ، وَمِنَ الثَّانِي الْجُزْءُ الْهَابِطُ، أَمَّا الصَّاعِدُ فَيَصْعَدُ، وَأَمَّا الْهَابِطُ فَيَغُوصُ فِي أَعْمَاقِ الْأَرْضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّوَاةِ الصَّغِيرَةِ شَجَرَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: خَفِيفٌ صَاعِدٌ، وَالْأُخْرَى ثَقِيلٌ هَابِطٌ مَعَ اتِّحَادِ الْعُنْصُرِ وَاتِّحَادِ طَبْعِ النَّوَاةِ وَالْمَاءِ وَالْهَوَاءِ وَالتُّرْبَةِ أَفَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَةٍ كَامِلَةٍ وَحِكْمَةٍ شَامِلَةٍ فَهَذَا الْقَادِرُ كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ وَتَرْكِيبِ الْأَعْضَاءِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَجِّ:
وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ الْحَجِّ: 5 وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ؟ الْوَاقِعَةِ: 68، 69 وَتَقْدِيرُهُ أَنَّ الْمَاءَ جِسْمٌ ثَقِيلٌ بِالطَّبْعِ، وَإِصْعَادُ الثَّقِيلِ أَمْرٌ عَلَى خِلَافِ الطَّبْعِ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَادِرٍ قَاهِرٍ يَقْهَرُ الطَّبْعَ وَيُبْطِلُ الْخَاصِّيَّةَ وَيُصْعِدُ مَا مِنْ شَأْنِهِ الْهُبُوطُ وَالنُّزُولُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ تِلْكَ الذَّرَّاتِ الْمَائِيَّةَ اجْتَمَعَتْ بَعْدَ تَفَرُّقِهَا. وَثَالِثُهَا: تَسْيِيرُهَا بِالرِّيَاحِ وَرَابِعُهَا:
إِنْزَالُهَا فِي مَظَانِّ الْحَاجَةِ وَالْأَرْضِ الْجُرُزِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَشْرِ. أَمَّا صُعُودُ الثَّقِيلِ فَلِأَنَّهُ قَلْبُ