فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَواقِحَ وَهِيَ مُلَقَّحَةٌ؟
وَالْجَوَابُ: مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ (لواقح) هاهنا بِمَعْنَى مَلَاقِحَ جَمْعُ مُلَقَّحَةٍ وَأَنْشَدَ لِسُهَيْلٍ يَرْثِي أَخَاهُ:
لَبَّيْكَ يَزِيدُ يَائِسٌ ذُو ضَرَاعَةٍ
... وَأَشْعَثُ مِمَّا طَوَّحَتْهُ الطَّوَائِحُ
أَرَادَ الْمَطُوحَاتِ وَقَرَّرَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ ذَلِكَ فَقَالَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْقَلَ النَّبْتُ فهل بَاقِلٌ يُرِيدُونَ هُوَ مُبَقَّلٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ وُرُودِ لَاقِحٍ عِبَارَةً عَنْ مُلَقِّحٍ.
وَالوجه الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يقال لها لواقح وإن ألحقت غَيْرَهَا لِأَنَّ/ مَعْنَاهَا النِّسْبَةُ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ: دِرْهَمٌ وَازِنٌ، أَيْ ذُو وَزْنٍ، وَرَامِحٌ وَسَائِفٌ، أَيْ ذُو رُمْحٍ وَذُو سَيْفٍ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِمُغْنٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَصِحَّ اللَّاقِحُ. بِمَعْنَى ذَاتِ اللِّقَاحِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ اللَّاقِحَ هُوَ الْمَنْسُوبُ إِلَى اللِّقْحَةِ، وَمَنْ أَفَادَ غَيْرَهُ اللِّقْحَةَ فَلَهُ نِسْبَةٌ إِلَى اللِّقْحَةِ فَصَحَّ هَذَا الْجَوَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ أَنَّ الرِّيحَ فِي نَفْسِهَا لَاقِحٌ وَتَقْرِيرُهُ بِطَرِيقَيْنِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرِّيحَ حَاصِلَةٌ لِلسَّحَابِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا الْأَعْرَافِ: 57 أَيْ حَمَلَتْ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى تَكُونُ الرِّيحُ لَاقِحَةً بِمَعْنَى أَنَّهَا حَامِلَةٌ تَحْمِلُ السَّحَابَ وَالْمَاءَ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِلرِّيحِ لَقِحَتْ إِذَا أَتَتْ بِالْخَيْرِ، كَمَا قِيلَ لَهَا عَقِيمٌ إِذَا لَمْ تَأْتِ بِالْخَيْرِ، وَهَذَا كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: قَدْ لَقِحَتِ الْحَرْبُ وَقَدْ نَتَجَتْ وَلَدًا أَنْكَدَ يُشَبِّهُونَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ ضُرُوبِ الشَّرِّ بِمَا تَحْمِلُهُ النَّاقَةُ فَكَذَا هاهنا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الرِّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ وَحَرَكَةُ الْهَوَاءِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مُتَحَرِّكًا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ، وَذَلِكَ السَّبَبُ لَيْسَ نَفْسُ كَوْنِهِ هَوَاءً وَلَا شَيْئًا مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ، وَإِلَّا لَدَامَتْ حَرَكَةُ الْهَوَاءِ بِدَوَامِ ذَاتِهِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ، وَالْأَحْوَالُ الَّتِي تَذْكُرُهَا الْفَلَاسِفَةُ فِي سَبَبِ حَرَكَةِ الْهَوَاءِ عِنْدَ حُدُوثِ الرِّيحِ قَدْ حَكَيْنَاهَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِرَارًا فَأَبْطَلْنَاهَا وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهَا سَبَبًا لِحُدُوثِ الرِّيَاحِ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مُحَرِّكُهَا هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ.
وَأما قوله: فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ فَفِيهِ مَبَاحِثٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَاءَ الْمَطَرِ هَلْ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ يَنْزِلُ مِنْ مَاءِ السَّحَابِ؟ وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَنْزِلُ مِنَ السَّحَابِ كَيْفَ أَطْلَقَ اللَّهُ عَلَى السَّحَابِ لَفْظَ السَّمَاءِ؟ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَيْسَ السَّبَبُ فِي حُدُوثِ الْمَطَرِ مَا يَذْكُرُهُ الْفَلَاسِفَةُ بَلِ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ يُنْزِلُهُ مِنَ السَّحَابِ إِلَى الْأَرْضِ لِغَرَضِ الْإِحْسَانِ إلى العباد كما قال هاهنا: فَأَسْقَيْناكُمُوهُ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِكُلِّ مَا كَانَ فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمِنَ السَّمَاءِ أَوْ نَهْرٍ يَجْرِي أَسْقَيْتُهُ أَيْ جَعَلْتُهُ شُرْبًا لَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ مِنْهَا مَسْقًى، فَإِذَا كَانَتِ السُّقْيَا لِسَقْيِهِ قَالُوا سَقَاهُ، وَلَمْ يَقُولُوا أَسْقَاهُ. وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قَوْلِهِ: نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ النحل: 66 فقرءوا بِاللُّغَتَيْنِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي قَوْلِهِ: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً الْإِنْسَانِ: 21 وَفِي قَوْلِهِ: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ الشُّعَرَاءِ: 79 قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: سَقَيْتُهُ حتى