تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: أبشرتموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون، فمعنى: عَلى هاهنا للحال أي حالة الكبر، وقوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ فيه مسألتان:
المسألة الأولى: لفظ ما هاهنا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ كَأَنَّهُ قَالَ: بِأَيِّ أُعْجُوبَةٍ تُبَشِّرُونِي؟
فَإِنْ قِيلَ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَيْفَ اسْتَبْعَدَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِ الْوَلَدِ مِنْهُ فِي زَمَانِ الْكِبَرِ وَإِنْكَارُ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كُفْرٌ. الثاني: كيف قال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ بَيَّنُوا مَا بَشَّرُوهُ بِهِ، وَمَا فَائِدَةُ هَذَا الْإِسْتِفَهَامِ. قَالَ الْقَاضِي: أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي الْجَوَابِ عَنْ/ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ أَنَّهُ تَعَالَى يُعْطِيهِ الْوَلَدَ مَعَ أَنَّهُ يُبْقِيهِ عَلَى صِفَةِ الشَّيْخُوخَةِ أَوْ يَقْلِبُهُ شَابًّا، ثُمَّ يُعْطِيهِ الْوَلَدَ، وَالسَّبَبُ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ الْوَلَدُ حَالَ الشَّيْخُوخَةِ التَّامَّةِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الشَّبَابِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَا ذَكَرْتُمْ فَلِمَ قَالُوا: بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ.
قُلْنَا: إِنَّهُمْ بَيَّنُوا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَشَّرَهُ بِالْوَلَدِ مَعَ إبقائه على صفة الشيخوخة وقولهم: فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ. لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي جَوَابِهِمْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَقَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ جَوَابٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ عَظِيمَ الرَّغْبَةِ فِي شَيْءٍ وَفَاتَهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ حُصُولُ ذَلِكَ الْمُرَادِ فِيهِ، فَإِذَا بُشِّرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ عَظُمَ فَرَحُهُ وَسُرُورُهُ وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْفَرَحُ الْقَوِيُّ كَالْمُدْهِشِ لَهُ وَالْمُزِيلِ لِقُوَّةِ فَهْمِهِ وَذَكَائِهِ فَلَعَلَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَاتٍ مُضْطَرِبَةٍ فِي ذَلِكَ الْفَرَحِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقِيلَ أَيْضًا: إِنَّهُ يَسْتَطِيبُ تِلْكَ الْبِشَارَةَ فَرُبَّمَا يُعِيدُ السُّؤَالَ لِيَسْمَعَ تِلْكَ الْبِشَارَةَ مَرَّةً أُخْرَى وَمَرَّتَيْنِ وَأَكْثَرَ طَلَبًا لِلِالْتِذَاذِ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْبِشَارَةِ، وَطَلَبًا لِزِيَادَةِ الطُّمَأْنِينَةِ وَالْوُثُوقِ مِثْلَ قَوْلِهِ: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي الْبَقَرَةِ: 260 وَقِيلَ أَيْضًا: اسْتَفْهَمَ أَبِأَمْرِ اللَّهِ تُبَشِّرُونِ أَمْ مِنْ عِنْدِ أنفسكم واجتهادكم؟
المسألة الثانية: قرأ نافع: تبشرون بِكَسْرِ النُّونِ خَفِيفَةً فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَشْدِيدِهَا. وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ النُّونِ خَفِيفَةً، أَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّشْدِيدُ فَتَقْدِيرُهُ تُبَشِّرُونَنِي أُدْغِمَتْ نُونُ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْإِضَافَةِ، وَأَمَّا الْكَسْرُ وَالتَّخْفِيفُ فَعَلَى حَذْفِ نُونِ الْجَمْعِ اسْتِثْقَالًا لِاجْتِمَاعِ الْمِثْلَيْنِ وَطَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: حَذَفَ نَافِعٌ الْيَاءَ مَعَ النُّونِ. قَالَ: وَإِسْقَاطُ الْحَرْفَيْنِ لَا يَجُوزُ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَرْفًا وَاحِدًا وَهِيَ النُّونُ الَّتِي هِيَ عَلَامَةٌ لِلرَّفْعِ. وَعَلَى أَنَّ حَذْفَ الْحَرْفَيْنِ جَائِزٌ قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ: وَلا تَكُ وَفِي مَوْضِعٍ:
وَلا تَكُنْ فَأَمَّا فَتْحُ النُّونِ فَعَلَى غَيْرِ الْإِضَافَةِ وَالنُّونُ عَلَامَةُ الرَّفْعِ وَهِيَ مَفْتُوحَةٌ أَبَدًا، وَقَوْلُهُ: بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ بِمَا قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى أَنْ يُخْرِجَ مِنْ صُلْبِ إِبْرَاهِيمَ إسحاق عليه السلام. ويخرج من صلب إسحاق مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِ آدَمَ فَإِنَّهُ تعالى بشر بأنه يخرج من صلب إسحاق أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ فَقَوْلُهُ: بِالْحَقِّ إِشَارَةٌ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَقَوْلُهُ: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ نَهْيٌ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنِ الْقُنُوطِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا أَنَّ نَهْيَ الْإِنْسَانِ عَنِ الشَّيْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْمَنْهِيِّ فَاعِلًا لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ:
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ الْأَحْزَابِ: 1 ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: هَذَا الْكَلَامُ حَقٌّ، لِأَنَّ الْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَحْصُلُ إِلَّا عِنْدَ الْجَهْلِ بأمور: