الْمَعَارِفِ. وَأَشْرَفُ الْمَعَارِفِ وَأَجَلُّهَا مَعْرِفَةُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَالْقُوَّةُ الثَّانِيَةُ لِلنَّفْسِ: اسْتِعْدَادُهَا لِلتَّصَرُّفِ فِي أَجْسَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ هِيَ الْقُوَّةُ الْمُسَمَّاةُ بِالْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ، وَسَعَادَةُ هَذِهِ الْقُوَّةِ فِي الْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَشْرَفُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ هُوَ عُبُودِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُونِ وَلَمَّا كَانَتِ الْقُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ أَشْرَفَ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا عَلَى كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ الْعَمَلِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: فَاتَّقُونِ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: الصِّحَّةُ الْجَسَدَانِيَّةُ، وَكَمَالَاتُ الْقُوَى الْحَيَوَانِيَّةِ، أَعْنِي الْقُوَى السَبْعَ عَشْرَةَ الْبَدَنِيَّةَ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ السَّعَادَاتُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصِّفَاتِ الْعَرَضِيَّةِ الْبَدَنِيَّةِ، فَهِيَ أَيْضًا قِسْمَانِ: سَعَادَةُ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ، أَعْنِي كَمَالَ حَالِ الْآبَاءِ. وَكَمَالَ حَالِ الْأَوْلَادِ.
وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَخَسُّ الْمَرَاتِبِ فَهِيَ السَّعَادَاتُ الْحَاصِلَةُ بِسَبَبِ الْأُمُورِ الْمُنْفَصِلَةِ وَهِيَ الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَثَبَتَ أَنَّ أَشْرَفَ مَرَاتِبِ السَّعَادَاتِ هِيَ الْأَحْوَالُ النَّفْسَانِيَّةُ، وَهِيَ مَحْصُورَةٌ فِي كَمَالَاتِ الْقُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ والعملية، فلهذا السبب ذكر الله هاهنا أَعْلَى حَالِ هَاتَيْنِ الْقُوَّتَيْنِ فَقَالَ: أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ.
سورة النحل (16) : آية 3خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ لِذَاتِهِ، وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا وَمَعْرِفَةَ الْخَيْرِ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ وَهِيَ الْمُرَادُ مِنْ قوله: فَاتَّقُونِ النحل: 2 رُوحُ الْأَرْوَاحِ، وَمَطْلَعُ السَّعَادَاتِ، وَمَنْبَعُ الْخَيْرَاتِ وَالْكَرَامَاتِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الدَّلَائِلِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْإِلَهِ تَعَالَى وَكَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ دَلَائِلَ الْإِلَهِيَّاتِ، إِمَّا التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْإِمْكَانِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ. أَوِ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ الْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوْ فِي الصِّفَاتِ أَوْ بِمَجْمُوعِ الْإِمْكَانِ وَالْحُدُوثِ فِي الذَّوَاتِ أَوِ الصِّفَاتِ، فَهَذِهِ طُرُقٌ سِتَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلَةِ، هُوَ التَّمَسُّكُ بِطَرِيقَةِ حُدُوثِ الصِّفَاتِ وَتَغَيُّرَاتِ الْأَحْوَالِ. ثُمَّ هَذَا الطَّرِيقُ يَقَعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْأَظْهَرِ فَالْأَظْهَرِ مُتَرَقِّيًا إِلَى الْأَخْفَى فَالْأَخْفَى، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّهُ تعالى قال: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَجَعَلَ تَعَالَى تَغَيُّرَ أَحْوَالِ نَفْسِ كُلِّ وَاحِدٍ دَلِيلًا عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الْخَالِقِ. ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ الْبَقَرَةِ: 21 ثُمَّ ذَكَرَ عَقِيبَهُ الِاسْتِدْلَالَ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً لِأَنَّ الْأَرْضَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ قَوْلَهُ: وَالسَّماءَ بِناءً ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْمَرْتَبَةِ الْخَامِسَةِ الْأَحْوَالَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنْ تَرْكِيبِ السَّمَاءِ بِالْأَرْضِ، فَقَالَ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ الْبَقَرَةِ: 22 .
الثَّانِي مِنَ الدَّلَائِلِ الْقُرْآنِيَّةِ: أَنْ يَحْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى بِالْأَشْرَفِ فَالْأَشْرَفِ نَازِلًا إِلَى الْأَدْوَنِ/ فَالْأَدْوَنِ، وَهَذَا الطَّرِيقُ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْمُخْتَارِ بِذِكْرِ الْأَجْرَامِ الْعَالِيَةِ الْفَلَكِيَّةِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِ الْحَيَوَانِ، ثم