كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أُمُورٍ غَيْرِ ضَرُورِيَّةٍ مِثْلَ الزِّينَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ أَشْرَفُ مِنَ الثَّانِي، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْأَنْعَامُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ بَدَأَ اللَّهُ بِذِكْرِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَنْعَامَ عِبَارَةٌ عَنِ الْأَزْوَاجِ الثَّمَانِيَةِ وَهِيَ: الضَّأْنُ، وَالْمَعْزُ. وَالْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ، وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا:
الْأَنْعَامُ ثَلَاثَةٌ: الْإِبِلُ. وَالْبَقَرُ. وَالْغَنَمُ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْإِبِلِ. وَقَوْلُهُ:
وَالْأَنْعامَ مَنْصُوبَةٌ وَانْتِصَابُهَا بِمُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ يس: 39 وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطَفَ عَلَى الْإِنْسَانِ. أَيْ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَالْأَنْعَامَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: لَكُمْ ثُمَّ ابْتَدَأَ وَقَالَ: فِيها دِفْءٌ قَالَ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : أَحْسَنُ الِوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: خَلَقَها وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ وَالتَّقْدِيرُ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَ الْأَنْعَامَ لِلْمُكَلَّفِينَ أَتْبَعَهُ بِتَعْدِيدِ تِلْكَ الْمَنَافِعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنَافِعَ النَّعَمِ مِنْهَا ضَرُورِيَّةٌ، وَمِنْهَا غَيْرُ ضَرُورِيَّةٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ.
فَالْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَقَدْ ذكر هذه الْمَعْنَى فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها النَّحْلِ: 80 وَالدِّفْءُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا يُسْتَدْفَأُ بِهِ مِنَ الْأَكْسِيَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: وَيَكُونُ الدِّفْءُ السُّخُونَةَ. يُقَالُ: أَقْعُدُ فِي دِفْءِ هَذَا الْحَائِطِ، أَيْ فِي كِنِّهِ. وَقُرِئَ: دِفٌ بِطَرْحِ الْهَمْزَةِ وَإِلْقَاءِ حَرَكَتِهَا عَلَى الْفَاءِ.
وَالْمَنْفَعَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَمَنافِعُ قَالُوا: الْمُرَادُ نَسْلُهَا وَدَرُّهَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نَسْلِهَا وَدَرِّهَا بِلَفْظِ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الْوَصْفِ الْأَعَمِّ، لِأَنَّ النَّسْلَ وَالدَّرَّ قَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْأَكْلِ وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ، وَقَدْ يُنْتَفَعُ بِهِ بِأَنْ يُبَدَّلَ بِالثِّيَابِ وَسَائِرِ الضَّرُورِيَّاتِ فَعَبَّرَ عَنْ جُمْلَةِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بِلَفْظِ الْمَنَافِعِ لِيَتَنَاوَلَ الْكُلَّ.
وَالْمَنْفَعَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَمِنْها تَأْكُلُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَيْضًا مَنْفَعَةُ الْأَكْلِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَنْفَعَةِ اللُّبْسِ، فَلِمَ أَخَرَّ مَنْفَعَتَهُ فِي الذِّكْرِ؟
قُلْنَا: الْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْأَكْلَ مِنْهَا هُوَ الْأَصْلُ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ النَّاسُ فِي مَعَايِشِهِمْ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ غَيْرِهَا كَالدَّجَاجِ وَالْبَطِّ وَصَيْدِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَيُشْبِهُ غَيْرَ الْمُعْتَادِ. وَكَالْجَارِي مَجْرَى التَّفَكُّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنَّ غَالِبَ أَطْعِمَتِكُمْ مِنْهَا لِأَنَّكُمْ تَحْرُثُونَ بِالْبَقْرِ وَالْحَبُّ وَالثِّمَارُ الَّتِي تَأْكُلُونَهَا مِنْهَا، وَأَيْضًا تَكْتَسِبُونَ بِإِكْرَاءِ الْإِبِلِ وَتَنْتَفِعُونَ بِأَلْبَانِهَا وَنَتَاجِهَا وَجُلُودِهَا، وَتَشْتَرُونَ بِهَا جَمِيعَ أَطْعِمَتِكُمْ.
وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: أَنَّ الْمَلْبُوسَ أَكْثَرُ بَقَاءً مِنَ الْمَطْعُومِ، فَلِهَذَا قَدَّمَهُ عَلَيْهِ فِي الذِّكْرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَنَافِعَ الثَّلَاثَةَ هِيَ الْمَنَافِعُ الضَّرُورِيَّةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ. وَأَمَّا الْمَنَافِعُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ لَيْسَتْ بِضَرُورِيَّةٍ فَأُمُورٌ:
الْمَنْفَعَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ الْإِرَاحَةُ رَدُّ الإبل بالعشي