مَعْرِفَةِ الطُّرُقِ وَالْمَسَالِكِ فَكَذَلِكَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا فِي مَعْرِفَةِ طَلَبِ الْقِبْلَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِبَاهَ الْقِبْلَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَلَامَاتٍ لَائِحَةٍ أَوْ لَا يَكُونَ، فَإِنْ كَانَتْ لَائِحَةً وَجَبَ أَنْ يَجِبَ الِاجْتِهَادُ وَيَتَوَجَّهَ إِلَى حَيْثُ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهُ هُوَ الْقِبْلَةُ، فَإِنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّهُ كَانَ مُقَصِّرًا فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ تَظْهَرِ الْعَلَامَاتُ فَهَهُنَا طَرِيقَانِ:
الطَّرِيقُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِي الصَّلَاةِ إِلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ لِأَنَّ الْجِهَاتِ لَمَّا تَسَاوَتْ وَامْتَنَعَ التَّرْجِيحُ لَمْ يَبْقَ إِلَّا التَّخْيِيرُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنْ يُصَلِّيَ إِلَى جَمِيعِ الْجِهَاتِ فَحِينَئِذٍ يَعْلَمُ بِيَقِينٍ أَنَّهُ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَهَذَا كَمَا يَقُولُهُ الْفُقَهَاءُ: فِيمَنْ نَسِيَ صَلَاةً لَا يَعْرِفُهَا بِعَيْنِهَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ أَنْ يَأْتِيَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ فَقَطْ وَهَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ أَنْ يَفْعَلَ الْكُلَّ كَانَ الْكُلُّ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ سَبَبُ وُجُوبِ كُلِّ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ فَوْتَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 21أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
في قَوْلُهُ تَعَالَى أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ عَلَى التَّرْتِيبِ الْأَحْسَنِ وَالنَّظْمِ الْأَكْمَلِ وَكَانَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ دَلَائِلَ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا كَانَتْ شَرْحًا وَتَفْصِيلًا لِأَنْوَاعِ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَقْسَامِ إِحْسَانِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ إِبْطَالِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتْ هَذِهِ الدَّلَائِلُ الْبَاهِرَةُ، وَالْبَيِّنَاتُ الزَّاهِرَةُ الْقَاهِرَةُ عَلَى وُجُودِ إِلَهٍ قَادِرٍ حَكِيمٍ، وَثَبَتَ أَنَّهُ هُوَ الْمَوْلَى لِجَمِيعِ هَذِهِ النِّعَمِ وَالْمُعْطِي لِكُلِّ هَذِهِ الْخَيْرَاتِ فَكَيْفَ يَحْسُنُ فِي الْعُقُولِ الِاشْتِغَالُ بِعِبَادَةِ مَوْجُودٍ سِوَاهُ لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذلك الْمَوْجُودُ جَمَادًا لَا يَفْهَمُ وَلَا يَقْدِرُ، فَلِهَذَا الوجه قَالَ بَعْدَ تِلْكَ الْآيَاتِ: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَالْمَعْنَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَمَنْ لَا يَخْلُقُ بَلْ لَا يَقْدِرُ الْبَتَّةَ عَلَى شَيْءٍ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ فَإِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ وَنَظَرٍ. وَيَكْفِي فِيهِ أَنْ تَتَنَبَّهُوا عَلَى مَا فِي عُقُولِكُمْ مِنْ أَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنْعِمِ الْأَعْظَمِ، وَأَنْتُمْ تَرَوْنَ فِي الشَّاهِدِ إِنْسَانًا عَاقِلًا فَاهِمًا يُنْعِمُ بِالنِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَقْبُحُ عِبَادَتُهُ فَهَذِهِ الْأَصْنَامُ جَمَادَاتٌ مَحْضَةٌ، وَلَيْسَ لَهَا فَهْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارٌ فَكَيْفَ تُقْدِمُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا، وَكَيْفَ تُجَوِّزُونَ الِاشْتِغَالَ بِخِدْمَتِهَا وَطَاعَتِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كَمَنْ لَا يَخْلُقُ الْأَصْنَامُ، وَأَنَّهَا جَمَادَاتٌ فَلَا يَلِيقُ بِهَا لَفْظَةُ «مَنْ» لِأَنَّهَا لِأُولِي الْعِلْمِ. وَأُجِيبَ عَنْهُ مِنْ وجوه: