النوع الْأَوَّلُ: مَا يَسْكُنُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ.
وَالنوع الثَّانِي: الَّتِي تَسْكُنُ بُيُوتَ النَّاسِ وَتَكُونُ فِي تَعَهُّدَاتِ النَّاسِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ. وَالثَّانِي: هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهُوَ خَلَايَا النَّحْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا مَعْنَى «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ وَهَلَّا قِيلَ فِي الْجِبَالِ وَفِي الشَّجَرِ؟
قُلْنَا: أُرِيدَ بِهِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَأَنْ لَا تَبْنِيَ بُيُوتَهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَشَجَرٍ، بَلْ فِي مَسَاكِنَ تُوَافِقُ مَصَالِحَهَا وَتَلِيقُ بِهَا.
المسألة الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً أَمْرٌ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِهَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ عُقُولٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَّجَهَ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَمْرٌ وَنَهْيٌ. وَقَالَ آخَرُونَ:
لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهَا غَرَائِزَ وَطَبَائِعَ تُوجِبُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ، وَالْكَلَامُ الْمُسْتَقْصَى فِي هَذِهِ المسألة مذكور في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ النَّمْلِ: 18 .
ثم قال تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ لَفْظَةُ «مِنْ» هاهنا لِلتَّبْعِيضِ أَوْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَرَأَيْتُ فِي «كُتُبِ الطِّبِّ» أَنَّهُ تَعَالَى دَبَّرَ هَذَا الْعَالَمَ عَلَى وَجْهٍ، وَهُوَ أَنَّهُ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ طَلٌّ لَطِيفٌ فِي اللَّيَالِي وَيَقَعُ ذَلِكَ الطَّلُّ عَلَى أَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ، فَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْأَجْزَاءُ الطَّلِّيَّةُ لَطِيفَةً صَغِيرَةً مُتَفَرِّقَةً عَلَى الْأَوْرَاقِ وَالْأَزْهَارِ، وَقَدْ تَكُونُ كَثِيرَةً بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ مِنْهَا أَجْزَاءٌ مَحْسُوسَةٌ.
أَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَهُوَ مِثْلُ التَّرَنْجَبِينِ فَإِنَّهُ طَلٌّ يَنْزِلُ مِنَ الْهَوَاءِ وَيَجْتَمِعُ عَلَى أَطْرَافِ الطَّرْفَاءِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا النَّحْلَ حَتَّى أَنَّهَا تَلْتَقِطُ تِلْكَ الذَّرَّاتِ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ بِأَفْوَاهِهَا وَتَأْكُلُهَا وَتَغْتَذِي بِهَا، فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا مَرَّةً أُخْرَى شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ وَذَهَبَتْ بِهَا إِلَى بُيُوتِهَا وَوَضَعَتْهَا هُنَاكَ، لِأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي بُيُوتِهَا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ شَيْءٌ كَثِيرٌ فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ النَّحْلَ تَأْكُلُ مِنَ الْأَزْهَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْمُعَطَّرَةِ أَشْيَاءَ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى يَقْلِبُ تِلْكَ الْأَجْسَامَ فِي دَاخِلِ بَدَنِهَا عَسَلًا، ثُمَّ إِنَّهَا تَقِيءُ مَرَّةً أُخْرَى فَذَاكَ هُوَ الْعَسَلُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الْعَقْلِ وَأَشَدُّ مُنَاسَبَةً إِلَى الِاسْتِقْرَاءِ، فَإِنَّ طَبِيعَةَ التَّرَنْجَبِينِ قَرِيبَةٌ مِنَ الْعَسَلِ فِي الطَّعْمِ وَالشَّكْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ طَلٌّ يَحْدُثُ فِي الْهَوَاءِ وَيَقَعُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ فَكَذَا هاهنا. وَأَيْضًا فَنَحْنُ نُشَاهِدُ أَنَّ هَذَا النَّحْلَ إِنَّمَا يَتَغَذَّى بِالْعَسَلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّا إِذَا اسْتَخْرَجْنَا الْعَسَلَ مِنْ بُيُوتِ النَّحْلِ نَتْرُكُ لَهَا بَقِيَّةً مِنْ ذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ تَغْتَذِيَ بِهَا فَعَلِمْنَا أَنَّهَا إِنَّمَا تَغْتَذِي بِالْعَسَلِ وَأَنَّهَا إِنَّمَا تَقَعُ عَلَى الْأَشْجَارِ وَالْأَزْهَارِ لِأَنَّهَا تَغْتَذِي بِتِلْكَ الْأَجْزَاءِ الطَّلِّيَّةِ الْعَسَلِيَّةِ الْوَاقِعَةِ مِنَ الْهَوَاءِ عَلَيْهَا.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كلمة (من) هاهنا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَلَا تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
ثم قال تَعَالَى: فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ وَالْمَعْنَى: ثُمَّ كُلِي كُلَّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِينَهَا فَإِذَا أَكَلْتِهَا فَاسْلُكِي سُبُلَ