إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقْدِّمَةَ فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ ذَكَرَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْكَذِبِ فَكَأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْكُفْرِ، ثم قال: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْكَذِبِ فِيهِمْ ثَابِتَةٌ رَاسِخَةٌ دَائِمَةٌ. وَهَذَا كَمَا تَقُولُ: كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ فَيَكُونُ قَوْلُكَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ زِيَادَةً فِي الْوَصْفِ بِالْكَذِبِ. وَمَعْنَاهُ: أن عادتك أن تكون كاذبا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَاذِبَ الْمُفْتَرِيَ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْكُفْرِ إِلَّا إِنْكَارُ الْإِلَهِيَّةِ وَنُبُوَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى/ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ: هَلْ يَكْذِبُ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: «لَا» ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
في قَوْلُهُ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَظَّمَ تَهْدِيدَ الْكَافِرِينَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَفْصِيلًا فِي بَيَانِ من يكفر بلسانه لا يقلبه، وَمَنْ يَكْفُرُ بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ مَعًا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ، فَلِهَذَا السَّبَبِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّمَا يَفْتَرِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَاسْتَثْنَى مِنْهُمُ الْمُكْرَهَ فَلَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ حُكْمِ الِافْتِرَاءِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَقَوْلُهُ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ مِنْهُ. الثَّانِي: يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ الْكَاذِبُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمْ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ، وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الذَّمِّ، وَالتَّقْدِيرُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ، أَعْنِي مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ الْوُجُوهِ عِنْدِي وَأَبْعَدُهَا عَنِ التَّعَسُّفِ، وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ شَرْطًا مُبْتَدَأً وَيُحْذَفُ جَوَابُهُ، لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ الْمَذْكُورِ بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَابِهِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ/ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ: وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكَلُّمُ بِالْكُفْرِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحدها: أنا روينا أن بلالا صبر على ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَكَانَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ.
رُوِيَ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فُتِنُوا فَارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ فِيهِ، وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ أُكْرِهَ فَأَجْرَى كَلِمَةَ الْكُفْرِ عَلَى لِسَانِهِ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ بِقَلْبِهِ مُصِرًّا عَلَى الْإِيمَانِ، مِنْهُمْ:
عَمَّارٌ، وَأَبَوَاهُ يَاسِرٌ وَسُمَيَّةُ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلَالٌ، وَخَبَّابٌ، وَسَالِمٌ، عُذِّبُوا، فَأَمَّا سُمَيَّةُ فَقِيلَ: رُبِطَتْ بين بعيرين ووخزت في قلبها بِحَرْبَةٍ وَقَالُوا: إِنَّكِ أَسْلَمْتِ مِنْ أَجْلِ الرِّجَالِ وَقُتِلَتْ، وَقُتِلَ يَاسِرٌ وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا في