البحث الثالث: هذا من الكلام الْمَقْلُوبِ، لِأَنَّ الضَّيْقَ صِفَةٌ، وَالصِّفَةُ تَكُونُ حَاصِلَةً في الموصوف ولا يكون المصوف حاصلا في الصفة، فكان المعنى فلا يكن الضَّيْقُ فِيكَ، إِلَّا أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ هُوَ أَنَّ الضَّيْقَ إِذَا عَظُمَ وَقَوِيَ صَارَ كَالشَّيْءِ الْمُحِيطِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ كُلِّ الْجَوَانِبِ وَصَارَ كَالْقَمِيصِ الْمُحِيطِ بِهِ، فَكَانَتِ الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّهْدِيدِ لِأَنَّ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى رَغَّبَ فِي تَرْكِ الِانْتِقَامِ عَلَى سَبِيلِ الرَّمْزِ، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ عَدَلَ عَنِ الرَّمْزِ إِلَى التَّصْرِيحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّالِثَةِ أَمَرَنَا بِالصَّبْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَفِي هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ الرَّابِعَةِ كَأَنَّهُ ذَكَرَ الْوَعِيدَ فِي فِعْلِ الِانْتِقَامِ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ فِي تَرْكِ أَصْلِ الِانْتِقَامِ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ فَكُنْ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَمِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَمَنْ وَقَفَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ عَرَفَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الرِّفْقِ وَاللُّطْفِ مَرْتَبَةً فَمَرْتَبَةً، وَلَمَّا قَالَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَةَ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّعْوَةَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى هَذَا الوجه، وَعِنْدَ الْوُقُوفِ عَلَى هَذِهِ اللَّطَائِفِ يَعْلَمُ الْعَاقِلُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ الْكَرِيمَ بَحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ.
المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا مَعِيَّتُهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْفَضْلِ وَالرُّتْبَةِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ اتَّقَوْا إِشَارَةٌ إِلَى التَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ إِشَارَةٌ إِلَى الشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ لِلْإِنْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ فَقَالَ: كَمَالُ الطَّرِيقِ صِدْقٌ مَعَ الْحَقِّ وَخُلُقٌ مَعَ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: كَمَالُ الْإِنْسَانِ فِي أَنْ يَعْرِفَ الْحَقَّ لِذَاتِهِ، وَالْخَيْرَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ بِهِ، وَعَنْ هَرِمِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ عِنْدَ الْقُرْبِ مِنَ الْوَفَاةِ أَوْصِ، فَقَالَ:
إِنَّمَا الْوَصِيَّةُ مِنَ الْمَالِ وَلَا مَالَ لِي، وَلَكِنِّي أُوصِيكُمْ بِخَوَاتِيمِ سُورَةِ النَّحْلِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَعْلِيمُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَتَرْكِ التَّعَدِّي وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ، وَلَا تَعَلُّقَ لِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مَشْغُوفُونَ بِتَكْثِيرِ الْقَوْلِ بِالنَّسْخِ، وَلَا أَرَى فِيهِ فَائِدَةً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِزَمَانٍ مُعْتَدِلٍ، وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: الْحَقُّ عَزِيزٌ وَالطَّرِيقُ بَعِيدٌ وَالْمَرْكَبُ ضَعِيفٌ وَالْقُرْبُ بُعْدٌ وَالْوَصْلُ هَجْرٌ وَالْحَقَائِقُ مَصُونَةٌ وَالْمَعَانِي فِي غَيْبِ الْغَيْبِ مَحْصُونَةٌ وَالْأَسْرَارُ فِيمَا وَرَاءَ الْعِزِّ مَخْزُونَةٌ، وَبِيَدِ الْخَلْقِ الْقِيلُ وَالْقَالُ وَالْكَمَالُ لَيْسَ إِلَّا لِلَّهِ ذِي الْإِكْرَامِ وَالْجَلَالِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.