أَنَّ كُلَّ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ كَذَلِكَ، وَهُوَ الِانْتِقَالُ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلْمَةِ وَبِالضِّدِّ، وَانْتِقَالُ نُورِ الْقَمَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ إِلَى النُّقْصَانِ وَبِالضِّدِّ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَتَيْنِ نَفْسَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُمَا دَلِيلَيْنِ لِلْخَلْقِ عَلَى مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. أَمَّا فِي الدِّينِ: فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُضَادٌّ لِلْآخَرِ مُغَايِرٌ لَهُ، مَعَ كَوْنِهِمَا مُتَعَاقِبَيْنِ عَلَى الدَّوَامِ، مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُمَا غَيْرُ مَوْجُودَيْنِ لِذَاتِهِمَا، بَلْ لا بد لهما من فاعل يدبر هما ويقدر هما بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ، وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا: فَلِأَنَّ مَصَالِحَ الدُّنْيَا لَا تَتِمُّ إِلَّا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَلَوْلَا اللَّيْلُ لَمَا حَصَلَ السُّكُونُ وَالرَّاحَةُ، وَلَوْلَا النَّهَارُ لَمَا حَصَلَ الْكَسْبُ وَالتَّصَرُّفُ فِي وُجُوهِ الْمَعَاشِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: تَكُونُ الْإِضَافَةُ فِي آيَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِلتَّبْيِينِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَمَحْوُنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ وَجَعَلْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ نَفْسُ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، وَنَظِيرُهُ قَوْلُنَا: نَفْسُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ، فَكَذَلِكَ آيَةُ اللَّيْلِ هِيَ نَفْسُ اللَّيْلِ. وَيُقَالُ أَيْضًا: دَخَلْتُ بِلَادَ خُرَاسَانَ أَيْ دَخَلْتُ الْبِلَادَ الَّتِي هي خراسان، فكذلك هاهنا.
القول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيري الليل والنهر آيَتَيْنِ يُرِيدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَهِيَ الْقَمَرُ، وَفِي تَفْسِيرِ مَحْوِ الْقَمَرِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَا يَظْهَرُ فِي الْقَمَرِ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي النُّورِ، فَيَبْدُو فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْهِلَالِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَتَزَايَدُ نُورُهُ حَتَّى يَصِيرَ بَدْرًا كَامِلًا، ثُمَّ يَأْخُذُ فِي الِانْتِقَاصِ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمَحْوُ، إِلَى أَنْ يَعُودَ إِلَى الْمَحَاقِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ مَحْوِ الْقَمَرِ الْكَلَفُ الَّذِي يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ
يُرْوَى أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَانَا سَوَاءً فِي النُّورِ وَالضَّوْءِ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ/ فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ.
وَمَعْنَى الْمَحْوِ فِي اللُّغَةِ: إِذْهَابُ الْأَثَرِ، تَقُولُ: مَحَوْتُهُ أَمْحُوهُ وَانْمَحَى وَامْتَحَى إِذَا ذَهَبَ أَثَرُهُ، وَأَقُولُ: حَمْلُ الْمَحْوِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الوجه الأول أولى، وذلك لأن وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا هُوَ مَذْكُورٌ قَبْلُ، وَهُوَ مَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَعْلُ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً وَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ إِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي ابْتِغَاءِ فَضْلِ اللَّهِ إِذَا حَمَلْنَا الْمَحْوَ عَلَى زِيَادَةِ نُورِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ، لِأَنَّ سَبَبَ حُصُولِ هَذِهِ الْحَالَةِ يَخْتَلِفُ بِأَحْوَالِ نُورِ الْقَمَرِ، وَأَهْلُ التَّجَارِبِ بَيَّنُوا أَنَّ اخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْقَمَرِ فِي مَقَادِيرِ النُّورِ لَهُ أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ وَمَصَالِحِهِ، مِثْلَ أَحْوَالِ الْبِحَارِ فِي الْمَدِّ وَالْجَزْرِ، وَمِثْلَ أَحْوَالِ التَّجْرِبَاتِ عَلَى مَا تَذْكُرُهُ الْأَطِبَّاءُ فِي كُتُبِهِمْ، وَأَيْضًا بِسَبَبِ زِيَادَةِ نُورِ الْقَمَرِ وَنُقْصَانِهِ يَحْصُلُ الشُّهُورُ، وَبِسَبَبِ مُعَاوَدَةِ الشُّهُورِ يَحْصُلُ السُّنُونَ الْعَرَبِيَّةُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَى رُؤْيَةِ الْأَهِلَّةِ كَمَا قَالَ: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ فَثَبَتَ أَنَّ حَمْلَ الْمَحْوِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى.
وَأَقُولُ أَيْضًا: لَوْ حَمَلْنَا الْمَحْوَ عَلَى الْكَلَفِ الْحَاصِلِ فِي وَجْهِ الْقَمَرِ، فَهُوَ أَيْضًا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ قَاهِرٌ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ، أَمَّا دَلَالَتُهُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ فِي الْمَبْدَأِ، فَلِأَنَّ جِرْمَ الْقَمَرِ جِرْمٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَشَابِهَ الصِّفَاتِ، فَحُصُولُ الْأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْمَحْوِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ليس بسبب