فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ»
وَمَعْنَى كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ قِيَامَةً أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ كَأَنَّهَا كَانَتْ سَاكِنَةً مُسْتَقِرَّةً فِي هَذَا الْجَسَدِ السُّفْلِيِّ، فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ، قَامَتِ النَّفْسُ وَتَوَجَّهَتْ نَحْوَ الصُّعُودِ إِلَى الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِ هَذِهِ الْحَالَةِ قِيَامَةً، ثُمَّ عِنْدَ حُصُولِ الْقِيَامَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى زَالَ الْغِطَاءُ وَانْكَشَفَ الْوِطَاءُ، وَقِيلَ لَهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ق: 22 وَقَوْلُهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً مَعْنَاهُ: وَنُخْرِجُ لَهُ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْقِيَامَةِ مِنْ عُمْقِ الْبَدَنِ الْمُظْلِمِ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى جَمِيعِ تِلْكَ الْآثَارِ الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْأَحْوَالِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْكِتَابُ فِي هَذَا الْوَقْتِ مَنْشُورًا، لِأَنَّ الرُّوحَ حِينَ كَانَتْ فِي الْبَدَنِ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِيهِ مَخْفِيَّةً فَكَانَتْ كَالْمَطْوِيَّةِ أَمَّا بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّعَلُّقِ الْجَسَدَانِيِّ ظَهَرَتْ هَذِهِ الْأَحْوَالُ وَجَلَتْ وَانْكَشَفَتْ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا مَكْشُوفَةٌ مَنْشُورَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَطْوِيَّةً، وَظَاهِرَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَخْفِيَّةً، وَعِنْدَ ذَلِكَ تُشَاهِدُ الْقُوَّةُ الْعَقْلِيَّةُ جَمِيعَ تِلْكَ الْآثَارِ مَكْتُوبَةً بِالْكِتَابَةِ الذَّاتِيَّةِ فِي جَوْهَرِ الرُّوحِ فَيُقَالُ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ: اقْرَأْ كِتابَكَ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً فَإِنَّ تِلْكَ الْآثَارَ إِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ السَّعَادَةِ حَصَلَتِ السَّعَادَةُ لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُوجِبَاتِ الشَّقَاوَةِ حَصَلَتِ الشَّقَاوَةُ لَا مَحَالَةَ، فَهَذَا تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِحَسَبِ الْأَحْوَالِ الرُّوحَانِيَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الْأَحْوَالَ الظَّاهِرَةَ الَّتِي وَرَدَتْ فِيهَا الرِّوَايَاتُ حَقٌّ وَصِدْقٌ لَا مِرْيَةَ فِيهَا، وَاحْتِمَالُ الْآيَةِ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الرُّوحَانِيَّةِ ظَاهِرٌ أَيْضًا، وَالْمَنْهَجُ الْقَوِيمُ وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِالْكُلِّ وَاللَّهُ أعلم بحقائق الأمور.
سورة الإسراء (17) : آية 15مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)
فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الْإِسْرَاءِ: 13 وَمَعْنَاهُ: أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِعَمَلِ نَفْسِهِ، عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِعِبَارَةٍ أُخْرَى أَقْرَبَ إِلَى الْأَفْهَامِ وَأَبْعَدَ عَنِ الْغَلَطِ فَقَالَ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يَعْنِي أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِهِ، وَلَا يَتَعَدَّى مِنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى النَّجْمِ: 39، 40 قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى عَمَلٍ بِعَيْنِهِ أَصْلًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْقَادِرِ عَلَى الْفِعْلِ الْمُتَمَكِّنِ مِنْهُ كَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ، أَمَّا الْمَجْبُورُ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ، الْمَمْنُوعُ مِنَ الطَّرَفِ الثَّانِي فَهَذَا لَا يَلِيقُ بِهِ.
الْمُسَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَعَادَ تَقْرِيرَ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِأَثَرٍ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى قَالَ الزَّجَّاجُ: يُقَالُ وَزَرَ يَزِرُ فَهُوَ وَازِرٌ وَوَزَرَ وِزْرًا وَزِرَةً، وَمَعْنَاهُ: أَثِمَ يَأْثَمُ إِثْمًا قَالَ: وَفِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُذْنِبَ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَأَيْضًا غَيْرُهُ لَا يُؤَاخَذُ بِذَنْبِهِ بَلْ كُلُّ أَحَدٍ مُخْتَصٌّ بِذَنْبِ نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ الْإِنْسَانُ بِالْإِثْمِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ عمله كما قال الكفار: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ الزُّخْرُفِ: 32 .
وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي إِثْبَاتِ أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ.