الثَّالِثُ:
رَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَاحِيَةٍ وَمَعَهُ جِبْرِيلُ إِذِ انْشَقَّ أُفُقُ السَّمَاءِ فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ يَتَضَاءَلُ وَيَدْخُلُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ وَيَدْنُو مِنَ الْأَرْضِ فَإِذَا مَلَكٌ قَدْ مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
فَأَشَارَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ بِيَدِهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لِي نَاصِحٌ فَقُلْتُ عَبْدًا نَبِيًّا فَعَرَجَ ذَلِكَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ يَا جِبْرِيلُ قَدْ كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ هَذَا فَرَأَيْتُ مِنْ حَالِكَ مَا شَغَلَنِي عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ فَقَالَ هَذَا إِسْرَافِيلُ خَلَقَهُ اللَّهُ يَوْمَ خَلَقَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ صَافًّا قَدَمَيْهِ لَا يَرْفَعُ طَرْفَهُ وَبَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَهُ سَبْعُونَ نُورًا مَا مِنْهَا نُورٌ يَدْنُو مِنْهُ إِلَّا احْتَرَقَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَإِذَا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنَ السَّمَاءِ أَوْ مِنَ الْأَرْضِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ اللَّوْحُ بِقُرْبِ جَبِينِهِ فَيَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِي أَمَرَنِي بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مِيكَائِيلَ أَمَرَهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَمَلِ مَلَكِ الْمَوْتِ أَمَرَهُ بِهِ قُلْتُ يَا جِبْرِيلُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ أَنْتَ قَالَ عَلَى الرِّيَاحِ وَالْجُنُودِ قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءِ مِيكَائِيلُ قَالَ عَلَى النَّبَاتِ.
قُلْتُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ مَلَكُ الْمَوْتِ قَالَ عَلَى قَبْضِ الْأَنْفُسِ وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّهُ هَبَطَ إِلَّا لِقِيَامِ السَّاعَةِ وَمَا ذَاكَ الَّذِي رَأَيْتَ مِنِّي إِلَّا خَوْفًا مِنْ قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ كَلَامٌ فِي وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ أَعْلَى وَأَجَلُّ مِنْ كَلَامِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
قَالَ فِي بَعْضِ خطبه: ثم فتق ما بين السموات العلى فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَارًا مِنْ مَلَائِكَةٍ فَمِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ/ وَرُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ وَصَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَمُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَلَا سَهْوُ الْعُقُولِ وَلَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَلَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ وَمِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَأَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَمُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَأَمْرِهِ وَمِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَالسَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَمِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَالْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَالْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَالْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةً دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ وَأَسْتَارُ الْقُدْرَةِ لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَلَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ وَلَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَلَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً كُلُّ الْمَلَائِكَةِ أَوْ بَعْضُهُمْ فَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ كَانُوا مُحَارِبِينَ مَعَ إِبْلِيسَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَسْكَنَ الْجِنَّ الْأَرْضَ فَأَفْسَدُوا فِيهَا وَسَفَكُوا الدِّمَاءَ وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَعَثَ اللَّهُ إِبْلِيسَ فِي جُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَقَتَلَهُمْ إِبْلِيسُ بِعَسْكَرِهِ حَتَّى أَخْرَجُوهُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَأَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبَحْرِ فَقَالَ تَعَالَى لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَلَائِكَةِ يُفِيدُ الْعُمُومَ فَيَكُونُ التَّخْصِيصُ خِلَافَ الْأَصْلِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: جَاعِلٌ مِنْ جَعَلَ الَّذِي لَهُ مَفْعُولَانِ دَخَلَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ وَهُمَا قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَكَانَا مَفْعُولَيْنِ وَمَعْنَاهُ مُصَيِّرٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْأَرْضَ الَّتِي فِي الْآيَةِ جَمِيعُ الْأَرْضِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ
وَرَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُمْ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِهِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إِلَى الظَّاهِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْخَلِيفَةُ مَنْ يَخْلُفُ غَيْرَهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ يُونُسَ: 14 . وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ الْأَعْرَافِ: 69 فَأَمَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَلِيفَةِ مَنْ؟ فَفِيهِ قَوْلَانِ: