الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ الْإِسْرَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ ذَاتِهِ مِنْ تَحْتُ إِلَى فَوْقُ وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ إِنْزَالِ نُورِ الْوَحْيِ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقُ إِلَى تَحْتُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ أَكْمَلُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنَافِعَ الْإِسْرَاءِ بِهِ كَانَتْ مَقْصُورَةً عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ هُنَالِكَ: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا الْإِسْرَاءِ: 1 وَمَنَافِعُ إِنْزَالِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ مُتَعَدِّيَةٌ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْفَوَائِدُ الْمُتَعَدِّيَةُ أَفْضَلُ مِنَ الْقَاصِرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمُشَبِّهَةُ اسْتَدَلُّوا بِلَفْظِ الْإِسْرَاءِ فِي السُّورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبِلَفْظِ الْإِنْزَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مُخْتَصٌّ بِجِهَةِ فَوْقُ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَذْكُورٌ بِالتَّمَامِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الْأَعْرَافِ: 54 .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنْزَالُ الْكِتَابِ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ وَنِعْمَةٌ عَلَيْنَا، أَمَّا كَوْنُهُ نِعْمَةً عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى أَطْلَعَهُ بِوَاسِطَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ عَلَى أَسْرَارِ عُلُومِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ وَصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَأَسْرَارِ أَحْوَالِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَأَحْوَالِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَتَعَلُّقِ أَحْوَالِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ بِأَحْوَالِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وَتُعَلُّقِ أَحْوَالِ عَالَمِ الْآخِرَةِ بِعَالَمِ الدُّنْيَا، وَكَيْفِيَّةِ نُزُولِ الْقَضَاءِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَكَيْفِيَّةِ ارتباط عالم الجسمانيات بعالم الروحانيات، وتصير النَّفْسِ كَالْمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلَّى فِيهَا عَالَمُ الْمَلَكُوتِ وَيَنْكَشِفُ فِيهَا قُدْسُ اللَّاهُوتِ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ، وَأَمَّا كَوْنُ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَلَيْنَا فَلِأَنَّهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ كِتَابٌ كَامِلٌ فِي أَقْصَى الدَّرَجَاتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَنْتَفِعُ بِهِ بِمِقْدَارِ طَاقَتِهِ وَفَهْمِهِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الرَّسُولِ وَعَلَى جَمِيعِ أُمَّتِهِ أَنْ يَحْمَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَعَلَّمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ التَّحْمِيدِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ الْكِتَابَ بِوَصْفَيْنِ فَقَالَ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّيْءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَامًّا فِي ذَاتِهِ ثُمَّ يَكُونَ فَوْقَ التَّمَامِ بِأَنْ يُفِيضَ عَلَيْهِ كَمَالَ الْغَيْرِ «1» إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ فِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ كَامِلًا فِي ذَاتِهِ وَقَوْلِهِ: قَيِّماً إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ مُكَمِّلًا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْقَيِّمَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَائِمِ بِمَصَالِحِ الْغَيْرِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي صِفَةِ الْكِتَابِ: لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الْبَقَرَةِ: 2 فَقَوْلُهُ: لَا رَيْبَ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ فِي نَفْسِهِ بَالِغًا فِي الصِّحَّةِ وَعَدَمِ/ الْإِخْلَالِ إِلَى حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يَرْتَابَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهِ سَبَبًا لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ وَإِكْمَالِ حَالِهِمْ فَقَوْلُهُ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ فِيهِ وَقَوْلُهُ: قَيِّماً قَائِمٌ مُقَامَ قَوْلِهِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ وَهَذِهِ أَسْرَارٌ لَطِيفَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَعْيَانِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: نَفْيُ التَّنَاقُضِ عَنْ آيَاتِهِ كَمَا قَالَ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً النِّسَاءِ: 82 . وَثَانِيهَا: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْأَحْكَامِ وَالتَّكَالِيفِ فَهُوَ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَلَا خَلَلَ في شيء منها ألبتة. وثالثها: