الْأَشْبَهَ بِالْآيَةِ هُوَ الْإِشَارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً آلِ عِمْرَانَ: 41 وَالرَّمْزُ لَا يَكُونُ كِنَايَةً لِلْكَلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِالتَّسْبِيحِ الصَّلَاةَ وَهُوَ جَائِزٌ فِي اللُّغَةِ يُقَالُ: سُبْحَةُ الضُّحَى أَيْ صَلَاةُ الضُّحَى وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي صَلَاةِ الضُّحَى: «إِنِّي لَأُسَبِّحُهَا» أَيْ لَأُصَلِّيُهَا إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ الْبُكْرَةَ صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالْعَشِيَّ صَلَاةُ الْعَصْرِ/ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَهُ فِي مِحْرَابِهِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ فَكَانَ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ فَيَأْذَنُ لَهُمْ بِلِسَانِهِ، فَلَمَّا اعْتُقِلَ لِسَانُهُ خَرَجَ إِلَيْهِمْ كَعَادَتِهِ فَأَذِنَ لهم بغير كلام والله أعلم.
سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ يَحْيَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِصِفَاتٍ تِسْعٍ: الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُ مُخَاطَبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أن قوله: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَلَغَ بِيَحْيَى الْمَبْلَغَ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبَهُ بِذَلِكَ فَحَذَفَ ذِكْرَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْكِتَابُ الْمَذْكُورُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ التَّوْرَاةَ الَّتِي هِيَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ الْجَاثِيَةِ: 16 وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كِتَابًا خَصَّ اللَّهُ بِهِ يَحْيَى كَمَا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكَثِيرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ وَالْأَوَّلُ أولى لأن حمل الكلام هاهنا على المعهود السابق أولى ولا معهود هاهنا إِلَّا التَّوْرَاةُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: بِقُوَّةٍ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَخْذِ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ لِكُلِّ أَحَدٍ فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنًى يُفِيدُ الْمَدْحَ وَهُوَ الْجِدُّ وَالصَّبْرُ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ وَحَاصِلُهَا يَرْجِعُ إِلَى حُصُولِ مَلَكَةٍ تَقْتَضِي سُهُولَةَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ وَالْإِحْجَامَ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ. الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا اعْلَمْ أَنَّ فِي الْحُكْمِ أَقْوَالًا. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ الْحِكْمَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَاحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ إِذْ نَظَرَتْ
... إِلَى حَمَامٍ سِرَاعٍ وَارِدِ الثَّمَدِ
وَهُوَ الْفَهْمُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ مَعْمَرٍ أَنَّهُ الْعَقْلُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ مَا لِلَّعِبِ خُلِقْنَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ النُّبُوَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْكَمَ عَقْلَهُ فِي صِبَاهُ وَأَوْحَى إِلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُمَا صَبِيَّانِ لَا كَمَا بَعَثَ مُوسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَدْ بَلَغَا الْأَشُدَّ وَالْأَقْرَبُ حَمْلُهُ عَلَى النُّبُوَّةِ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِفَاتِ شَرَفِهِ وَمَنْقَبَتِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ النُّبُوَّةَ أَشْرَفُ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ فَذِكْرُهَا فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ أَوْلَى مِنْ ذِكْرِ غَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَبُّوتُهُ مَذْكُورَةً فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا لَفْظَ