يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلُهُ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفِتْنَةَ تَشْدِيدُ الْمِحْنَةِ، يُقَالُ فُتِنَ فُلَانٌ عَنْ دِينِهِ إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الْمِحْنَةُ حَتَّى رَجَعَ عَنْ دِينِهِ قَالَ تَعَالَى: فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ الْعَنْكَبُوتِ: 10 وَقَالَ تَعَالَى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ الْعَنْكَبُوتِ: 1- 3 وَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ الْبَقَرَةِ: 214 فَالزَّلْزَلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ وَمَسُّ الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفُتُونُ، وَلَمَّا كَانَ التَّشْدِيدُ فِي الْمِحْنَةِ مِمَّا يُوجِبُ كَثْرَةَ الثَّوَابِ لَا جَرَمَ عَدَّهُ اللَّه تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ النِّعَمِ. وثانيها:
فَتَنَّاكَ فُتُوناً أَيْ خَلَّصْنَاكَ تَخْلِيصًا مِنْ قَوْلِهِمْ: فَتَنْتُ الذَّهَبَ مِنَ الْفِضَّةِ إِذَا أَرَدْتَ تَخْلِيصَهُ وَسَأَلَ سعيد بن جبير بن عَبَّاسٍ عَنِ الْفُتُونِ فَقَالَ: نَسْتَأْنِفُ لَهُ نَهَارًا يَا ابْنَ جُبَيْرٍ. ثُمَّ لَمَّا أَصْبَحَ أَخْذَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي شَأْنِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ فَذَكَرَ قِصَّةَ فِرْعَوْنَ وَقَتْلَهُ أَوْلَادَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثُمَّ قِصَّةَ إِلْقَاءِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْيَمِّ وَالْتِقَاطَ آلِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُ وَامْتِنَاعَهُ مِنَ الِارْتِضَاعِ مِنَ الْأَجَانِبِ، ثُمَّ قِصَّةَ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخَذَ لِحْيَةَ فِرْعَوْنَ وَوَضْعَهُ الْجَمْرَةَ فِي فِيهِ، ثُمَّ قِصَّةَ قَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ هَرَبَهُ إِلَى مَدْيَنَ وَصَيْرُورَتَهُ أَجِيرًا لِشُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ عَوْدَهُ إِلَى مِصْرَ وَأَنَّهُ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ فِي اللَّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ وَاسْتِئْنَاسَهُ بِالنَّارِ مِنَ الشَّجَرَةِ وَكَانَ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا يَقُولُ هَذَا مِنَ الْفُتُونِ يَا ابْنَ جُبَيْرٍ.
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَلْ يَصِحُّ إِطْلَاقُ اسْمُ الْفَتَّانِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ اشْتِقَاقًا مِنْ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً وَالْجَوَابُ لَا لِأَنَّهُ صِفَةُ ذَمٍّ فِي الْعُرْفِ وَأَسْمَاءُ اللَّه تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ لَا سِيَّمَا فِيمَا يُوهِمُ مَا لَا يَنْبَغِي. الْمِنَّةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى وَاعْلَمْ أَنَّ التَّقْدِيرَ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَخَرَجْتَ خَائِفًا إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيهِمْ، أَمَّا مُدَّةُ اللُّبْثِ فَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: إِنَّهَا مَشْرُوحَةٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ- إِلَى قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ الْقَصَصِ: 29 وَهِيَ إِمَّا عَشَرَةٌ وَإِمَّا ثَمَانٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ الْقَصَصِ: 27 وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنْهَا عَشْرُ سِنِينَ/ مَهْرُ امْرَأَتِهِ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَبِثَ عِنْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَنْفِي الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَشْرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ لُبْثَهُ فِي مَدْيَنَ مِنَ الْفُتُونِ وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَحَمَّلَ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَالْغُرْبَةِ مِحَنًا كَثِيرَةً، وَاحْتَاجَ إِلَى أَنْ آجَرَ نَفْسَهُ، أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّهُ عَلَى قَدَرِ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا:
أَنَّهُ سَبَقَ فِي قَضَائِي وَقَدَرِي أَنْ أَجْعَلَكَ رَسُولًا لِي فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ عَيَّنْتُهُ لِذَلِكَ فَمَا جِئْتَ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ الْقَدَرِ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، وَمِنْهُ قَوْلِهِ: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ الْقَمَرِ: 49 ، وَثَانِيهَا: عَلَى مِقْدَارٍ مِنَ الزَّمَانِ يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهُوَ رَأْسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْقَدَرَ هُوَ الْمَوْعِدُ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَوْعِدَ صَحَّ حَمْلُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا قَدْ عُيِّنُوا ذَلِكَ الْمَوْعِدَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى مَجِيءَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ جُمْلَةِ مِنَنِهِ عَلَيْهِ، قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَوْلَا تَوْفِيقُهُ لَهُ لَمَا تَهَيَّأَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. الْمِنَّةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي وَالِاصْطِنَاعُ اتِّخَاذُ الصَّنْعَةِ، وَهِيَ افْتِعَالٌ مِنَ