كَانَ يُنْزِلُ بِهِمْ مِنْ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ كَثِيرًا مِنَ الْقَتْلِ وَالْإِذْلَالِ وَالْإِخْرَاجِ وَالْإِتْعَابِ فِي الْأَعْمَالِ، ثُمَّ ثَنَّى بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَوَجْهُ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ أَنَّهُ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِيهِ بَيَانُ دِينِهِمْ وَشَرْحُ شَرِيعَتِهِمْ ثُمَّ ثَلَّثَ بِذِكْرِ الْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ ثُمَّ زَجَرَهُمْ عَنِ الْعِصْيَانِ بِقَوْلِهِ: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ عَصَى ثُمَّ تَابَ كَانَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللَّه بِقَوْلِهِ: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَهَذَا بيان المقصود من الآية ثم هاهنا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ قَدْ أَنْجَيْتُكُمْ وَوَعَدْتُكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ كُلَّهَا بِالتَّاءِ إِلَّا قَوْلَهُ: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى فَإِنَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ كُلَّهَا بِالنُّونِ وَقَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَوَاعَدْنَاكُمْ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَوَاعَدْتُكُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا جَاوَزَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ قَالُوا لَهُ: أَلَيْسَ وَعَدْتَنَا أَنْ تَأْتِيَنَا مِنْ رَبِّنَا بِكِتَابٍ فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ. قَالَ بَلَى، ثُمَّ تَعَجَّلَ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ لِيَأْتِيَهُمْ بِالْكِتَابِ وَوَعَدَهُمْ أَنْ يَأْتِيَهُمْ إِلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً مِنْ يَوْمِ انْطَلَقَ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَواعَدْناكُمْ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَاعَدَ مُوسَى أَنْ يُؤْتِيَهُ التَّوْرَاةَ لِأَجْلِهِمْ وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّمَا قَالَ: وَاعَدْنَاكُمْ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَلِلسَّبْعِينَ الْمُخْتَارَةِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَيْسَ لِلْجَبَلِ يَمِينٌ وَلَا يَسَارٌ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ طُورَ سَيْنَاءَ عَنْ/ يَمِينِ مَنِ انْطَلَقَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ وَقُرِئَ الْأَيْمَنِ بالجر على الجوار نحو حجر ضَبٍّ خَرِبٍ وَانْتِفَاعُ الْقَوْمِ بِذَلِكَ إِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَيْهِمْ وَفِيهَا شَرْحُ دِينِهِمْ، وَإِمَّا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى عَلَى الطُّورِ حَصَلَ لِلْقَوْمِ بِسَبَبِ ذَلِكَ شَرَفٌ عَظِيمٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: كُلُوا لَيْسَ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ أَمْرَ إِبَاحَةٍ كَقَوْلِهِ: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا الْمَائِدَةِ: 2 .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الطَّيِّبَاتِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: اللَّذَائِذُ لِأَنَّ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى مِنْ لَذَائِذِ الْأَطْعِمَةِ. وَالثَّانِي:
وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ الْحَلَالُ لِأَنَّهُ شَيْءٌ أَنْزَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ تَمَسَّهُ يَدُ الْآدَمِيِّينَ وَيَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مَعْنًى مُشْتَرَكًا. وَتَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَا تَطْغَوْا، أَيْ لَا يَظْلِمْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَيَأْخُذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ. وَثَانِيهَا: قَالَ مُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ بِأَنْ تَتَجَاوَزُوا حَدَّ الْإِبَاحَةِ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ أَيْ لَا تَسْتَعِينُوا بِنِعْمَتِي على مخالفتي ولا تعرضوا عن الشُّكْرِ وَلَا تَعْدِلُوا عَنِ الْحَلَالِ إِلَى الْحَرَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحُلَّ وَمَنْ يَحْلُلْ كِلَاهُمَا بِالضَّمِّ وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّه فَيَحِلَّ بِالْكَسْرِ وَمَنْ يَحْلُلْ بِالرَّفْعِ وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالْكَسْرِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ أَمَّا مَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ الْوُجُوبُ مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ إِذَا وَجَبَ أَدَاؤُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ الْبَقَرَةِ: 196 وَالْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى النُّزُولِ وَقَوْلُهُ: فَقَدْ هَوى أَيْ شَقِيَ وَقِيلَ فَقَدْ وَقَعَ فِي الْهَاوِيَةِ، يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي هَوِيًّا إِذَا سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ إِلَى أَسْفَلَ.