الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَنْفُخُ بِفَتْحِ النُّونِ كَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يُنْفَخُ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ وَنَحْشُرُ بِالنُّونِ لِأَنَّ النَّافِخَ مَلَكٌ الْتَقَمَ الصُّورَ وَالْحَاشِرَ هُوَ اللَّه تَعَالَى، وَقُرِئَ يَوْمَ يَنْفُخُ بِالْيَاءِ الْمَفْتُوحَةِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَالضَّمِيرُ للَّه تَعَالَى أَوْ لِإِسْرَافِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا: يَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ فَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ إِلَّا الْحَسَنُ وَقُرِئَ فِي الصُّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ جَمْعُ صُورَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الصُّورِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ يُدْعَى بِهِ النَّاسُ إِلَى الْمَحْشَرِ. وَالثَّانِي:
أَنَّهُ جَمْعُ صُورَةٍ وَالنَّفْخُ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: الصُّوَرِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ الْمُدَّثِّرِ: 8 واللَّه تَعَالَى يُعَرِّفُ النَّاسَ أُمُورَ الْآخِرَةِ بِأَمْثَالِ مَا شُوهِدَ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ النَّفْخُ فِي الْبُوقِ عِنْدَ الْأَسْفَارِ وَفِي الْعَسَاكِرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْمُرَادُ مِنْ هَذَا النَّفْخِ هُوَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ كَالسَّبَبِ لِحَشْرِهِمْ فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً النَّبَأِ: 18 ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: الْمُجْرِمِينَ يَتَنَاوَلُ الْكُفَّارَ وَالْعُصَاةَ فَيَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: يُرِيدُ بِالْمُجْرِمِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَعَ اللَّه إِلَهًا آخَرَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْكَلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالزُّرْقَةِ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ وَهِيَ زُرْقَةٌ تَتَشَوَّهُ بِهَا خِلْقَتُهُمْ وَالْعَرَبُ تَتَشَاءَمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَخْبَرَ أَنَّهُمْ:
يُحْشَرُونَ عُمْيًا فَكَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى وَأَزْرَقَ؟ قُلْنَا: لَعَلَّهُ يَكُونُ أَعْمَى فِي حَالٍ وَأَزْرَقَ فِي حَالٍ. وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ مِنَ الزُّرْقَةِ الْعَمَى. قَالَ الْكَلْبِيُّ: زُرْقًا أَيْ عُمْيًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَخْرُجُونَ بُصَرَاءَ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ وَيَعْمُونَ فِي الْمَحْشَرِ.
وَسَوَادُ الْعَيْنِ إِذَا ذَهَبَ تَزْرَقُّ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أَعْمَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ إِبْرَاهِيمَ: 41 وَشُخُوصُ الْبَصَرِ مِنَ الْأَعْمَى مُحَالٌ، وَقَدْ قَالَ فِي حَقِّهِمُ: اقْرَأْ كِتابَكَ الْإِسْرَاءِ: 14 وَالْأَعْمَى كَيْفَ يَقْرَأُ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَحْوَالَهُمْ قَدْ تَخْتَلِفُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: الْمُرَادُ بِهَذِهِ الزُّرْقَةِ شُخُوصُ أَبْصَارِهِمْ وَالْأَزْرَقُ شَاخِصٌ لِأَنَّهُ لِضَعْفِ بَصَرِهِ يَكُونُ مُحَدِّقًا نَحْوَ الشَّيْءِ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَيَّنَهُ وَهَذِهِ حَالُ الْخَائِفِ الْمُتَوَقِّعِ لِمَا يَكْرَهُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ إِبْرَاهِيمَ: 41 . وَرَابِعُهَا: زُرْقًا عِطَاشًا هَكَذَا رَوَاهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ: لِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ/ الْعَطَشِ يَتَغَيَّرُ سَوَادُ عُيُونِهِمْ حَتَّى تَزْرَقَّ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً مَرْيَمَ: 86 . وَخَامِسُهَا: حَكَى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ قَالَ:
طَامِعِينَ فِيمَا لَا يَنَالُونَهُ. الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: مِنْ صِفَاتِ الْكُفَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يَتَخَافَتُونَ أَيْ يَتَسَارُّونَ. يُقَالُ: خَفَتَ يَخْفِتُ وَخَافَتَ مُخَافَتَةً وَالتَّخَافُتُ السِّرَارُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً طه: 108 وَإِنَّمَا يَتَخَافَتُونَ لِأَنَّهُ امْتَلَأَتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الرُّعْبِ وَالْهَوْلِ أَوْ لِأَنَّهُمْ صَارُوا بِسَبَبِ الْخَوْفِ فِي نِهَايَةِ الضَّعْفِ فَلَا يُطِيقُونَ الْجَهْرَ.