يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ وَهَذَا لَا يَلِيقُ بِالْبَشَرِ وَهَذِهِ الْعِنْدِيَّةُ عِنْدِيَّةُ الشَّرَفِ وَالرُّتْبَةِ لَا عِنْدِيَّةُ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْمَلَائِكَةُ مَعَ كَمَالِ شَرَفِهِمْ وَنِهَايَةِ جَلَالَتِهِمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ طَاعَتِهِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْبَشَرِ الضَّعِيفِ التَّمَرُّدُ عَنْ طَاعَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ وَلَا يَتْعَبُونَ وَلَا يَعْيَوْنَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فَإِنْ قُلْتَ الِاسْتِحْسَارُ مُبَالَغَةٌ فِي الْحُسُورِ فَكَانَ الْأَبْلَغُ فِي وَصْفِهِمْ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمْ أَدْنَى/ الْحُسُورِ قُلْتُ فِي الِاسْتِحْسَارِ بَيَانُ أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ يُوجِبُ غَايَةَ الْحُسُورِ وَأَقْصَاهُ وَأَنَّهُمْ أَحِقَّاءُ لِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَسْتَحْسِرُوا فِيمَا يَفْعَلُونَ أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ فَالْمَعْنَى أَنَّ تَسْبِيحَهُمْ مُتَّصِلٌ دَائِمٌ فِي جَمِيعِ أَوْقَاتِهِمْ لَا يَتَخَلَّلُهُ فَتْرَةٌ بِفَرَاغٍ أَوْ بِشُغْلٍ آخَرَ، رُوِيَ عَنْ عبد اللَّه بن الحرث بْنِ نَوْفَلٍ، قَالَ: قُلْتُ لِكَعْبٍ: أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّه تَعَالَى:
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ ثُمَّ قَالَ: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا فَاطِرٍ: 1 أَفَلَا تَكُونُ تِلْكَ الرِّسَالَةُ مَانِعَةً لَهُمْ عَنْ هَذَا التَّسْبِيحِ وَأَيْضًا قَالَ: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ الْبَقَرَةِ: 161 فَكَيْفَ يَشْتَغِلُونَ بِاللَّعْنِ حَالَ اشْتِغَالِهِمْ بِالتَّسْبِيحِ؟ أَجَابَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: التَّسْبِيحُ لَهُمْ كَالتَّنَفُّسِ لَنَا فَكَمَا أَنَّ اشْتِغَالَنَا بِالتَّنَفُّسِ لَا يَمْنَعُنَا مِنَ الْكَلَامِ فَكَذَا اشْتِغَالُهُمْ بِالتَّسْبِيحِ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ سَائِرِ الْأَعْمَالِ. فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ الِاشْتِغَالُ بِالتَّنَفُّسِ إِنَّمَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الْكَلَامِ، لِأَنَّ آلَةَ التَّنَفُّسِ غَيْرُ آلَةِ الْكَلَامِ أَمَّا التَّسْبِيحُ وَاللَّعْنُ فَهُمَا مِنْ جِنْسِ الْكَلَامِ فَاجْتِمَاعُهُمَا مُحَالٌ. وَالْجَوَابُ: أَيُّ اسْتِبْعَادٍ فِي أَنْ يَخْلُقَ اللَّه تَعَالَى لَهُمْ أَلْسِنَةً كَثِيرَةً بِبَعْضِهَا يُسَبِّحُونَ اللَّه وَبِبَعْضِهَا يَلْعَنُونَ أَعْدَاءَ اللَّه، أَوْ يُقَالُ مَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَفْتُرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَفْتُرُونَ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهِ فِي أَوْقَاتِهِ اللَّائِقَةِ بِهِ كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا يُوَاظِبُ عَلَى الْجَمَاعَاتِ لَا يَفْتُرُ عَنْهَا لَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ أَبَدًا مُشْتَغِلٌ بِهَا بَلْ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ مُوَاظِبٌ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا.
سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 25أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مِنْ أَوَّلِ السورة إلى هاهنا كَانَ فِي النُّبُوَّاتِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنَ الْكَلَامِ سُؤَالًا وَجَوَابًا، وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَإِنَّهَا فِي بَيَانِ التَّوْحِيدِ وَنَفْيِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أم هاهنا هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ الْكَائِنَةُ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةُ قَدْ أَذِنَتْ بِالْإِضْرَابِ عَمَّا قَبْلَهَا وَالْإِنْكَارِ لِمَا بَعْدَهَا، وَالْمُنْكَرُ هُوَ اتِّخَاذُهُمْ آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ يُنْشِرُونَ الْمَوْتَى، وَلَعَمْرِي إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنْكَرَاتِ أَنْ يُنْشِرَ الْمَوْتَى بَعْضَ الْمَوَاتِ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمُ اتِّخَاذَ آلِهَةٍ يُنْشِرُونَ وَمَا كَانُوا يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِآلِهَتِهِمْ بَلْ كَانُوا فِي نِهَايَةِ الْبُعْدِ عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مَعَ إقرارهم باللَّه وبأنه خالق السموات