أَنَا
كَمَا قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاخْتِيَارُ الْقَفَّالِ وَالزَّجَّاجِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صِفَةٌ لِلْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كَمَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَكَذَا يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ وَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى قُلْ لَهُمْ هَذَا الْكِتَابُ الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُوَافِقِينَ وَعَلَى بَيَانِ أَحْوَالِ مَنْ قَبْلِي مِنَ الْمُخَالِفِينَ وَالْمُوَافِقِينَ فَاخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، كَأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهُ التَّهْدِيدُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ: هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بِالتَّنْوِينِ وَمَنْ مَفْعُولٌ مَنْصُوبٌ بِالذِّكْرِ كَقَوْلِهِ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً الْبَلَدِ: 14، 15 وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ كَقَوْلِهِ: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ الرُّومِ: 2، 3 وَقُرِئَ: مِنْ مَعِي وَمِنْ قَبْلِي، بِكَسْرِ مِيمِ مَنْ عَلَى تَرْكِ الْإِضَافَةِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَإِدْخَالُ الْجَارِّ عَلَى مَعَ غَرِيبٌ وَالْعُذْرُ فِيهِ أَنَّهُ اسْمٌ هُوَ ظَرْفٌ نَحْوُ قَبْلَ وَبَعْدَ فَدَخَلَ مِنْ عَلَيْهِ كَمَا يَدْخُلُ عَلَى أَخَوَاتِهِ وَقُرِئَ: ذِكْرٌ مَعِيَ وَذِكْرٌ قَبْلِي.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلَ التَّوْحِيدِ وَطَالَبَهُمْ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَا ادَّعُوهُ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَلِيلَ لَهُمُ الْبَتَّةَ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ وُقُوعَهُمْ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ لَيْسَ لِأَجْلِ دَلِيلٍ سَاقَهُمْ إِلَيْهِ، بَلْ ذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ مَا هُوَ أَصْلُ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ كُلُّهُ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ، ثُمَّ تَرَتَّبَ عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ الْإِعْرَاضُ عَنِ اسْتِمَاعِ الْحَقِّ وَطَلَبِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قُرِئَ: الْحَقُّ بِالرَّفْعِ عَلَى تَوَسُّطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُسَبِّبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ بِسَبَبِ الْجَهْلِ هُوَ الْحَقُّ لَا الْبَاطِلُ.
أَمَّا قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فَاعْلَمْ أَنَّ يُوحِي وَنُوحِي قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا من آيات التوحيد.
سورة الأنبياء (21) : الآيات 26 الى 29وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
اعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِالدَّلَائِلِ الْبَاهِرَةِ كَوْنَهُ مُنَزَّهًا عَنِ الشَّرِيكِ وَالضِّدِّ وَالنِّدِّ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِبَرَاءَتِهِ عَنِ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ فَقَالَ: وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه وَأَضَافُوا إِلَى ذَلِكَ أَنَّهُ تَعَالَى صَاهَرَ الْجِنَّ عَلَى مَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَالَ: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الصَّافَّاتِ: 158 ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ شَبِيهًا بِالْوَالِدِ فَلَوْ كَانَ للَّه وَلَدٌ لَأَشْبَهَهُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، ثُمَّ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخَالِفَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَمَا بِهِ الْمُشَارَكَةُ غَيْرُ مَا بِهِ الْمُمَايَزَةُ