وَثَالِثُهَا: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ جَازَ أَنْ يُقَدِّرَ مُقَدِّرٌ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ إِذْ لَوْ مَاتَ لَتَغَيَّرَ شَرْعُهُ فَنَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى أَنَّ حَالَهُ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْمَوْتِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا الْعُمُومَ مَخْصُوصٌ فَإِنَّهُ تَعَالَى نَفْسٌ لِقَوْلِهِ: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ الْمَائِدَةِ: 116 مَعَ أَنَّ الْمَوْتَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَكَذَا الْجَمَادَاتِ لَهَا نُفُوسٌ وَهِيَ لَا تَمُوتُ، وَالْعَامُّ الْمَخْصُوصُ حُجَّةٌ فَيَبْقَى مَعْمُولًا بِهِ فِيمَا عَدَا هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ الْفَلَاسِفَةِ فِي أَنَّ الْأَرْوَاحَ الْبَشَرِيَّةَ وَالْعُقُولَ الْمُفَارِقَةَ والنفوس الفلكية لا تموت. والثاني: الذوق هاهنا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمَطْعُومِ حَتَّى يُذَاقَ بَلِ الذَّوْقُ إِدْرَاكٌ خَاصٌّ فَيَجُوزُ جَعْلُهُ مَجَازًا عَنْ أصل الإدراك، وأما الموت فالمراد منه هاهنا مُقَدِّمَاتُهُ مِنَ الْآلَامِ الْعَظِيمَةِ لِأَنَّ الْمَوْتَ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي الْوُجُودِ يَمْتَنِعُ إِدْرَاكُهُ وَحَالَ وُجُودِهِ يَصِيرُ الشَّخْصُ مَيِّتًا وَالْمَيِّتُ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا. وَالثَّالِثُ: الْإِضَافَةُ فِي ذَائِقَةِ الْمَوْتِ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لِأَنَّهُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ كَقَوْلِهِ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ المائدة: 1 ، وهَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ الْمَائِدَةِ: 95 .
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الِابْتِلَاءُ لَا يَتَحَقَّقُ إِلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ، فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّكْلِيفِ وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمْ يَقْتَصِرْ بِالْمُكَلَّفِ عَلَى مَا أَمَرَ وَنَهَى وَإِنْ كَانَ فِيهِ صُعُوبَةٌ بَلِ ابْتَلَاهُ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا سَمَّاهُ خَيْرًا وَهُوَ نِعَمُ الدُّنْيَا مِنَ الصِّحَّةِ وَاللَّذَّةِ وَالسُّرُورِ وَالتَّمْكِينِ مِنَ الْمُرَادَاتِ. وَالثَّانِي: مَا سَمَّاهُ شَرًّا وَهُوَ الْمَضَارُّ الدُّنْيَوِيَّةُ مِنَ الْفَقْرِ وَالْآلَامِ وَسَائِرِ الشَّدَائِدِ النَّازِلَةِ بِالْمُكَلَّفِينَ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْعَبْدَ مَعَ التَّكْلِيفِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، لِكَيْ يَشْكُرَ عَلَى الْمِنَحِ وَيَصْبِرَ فِي الْمِحَنِ، فَيَعْظُمَ ثَوَابُهُ إِذَا قَامَ بِمَا يَلْزَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا سَمَّى ذَلِكَ ابْتِلَاءً وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَعْمَالِ الْعَالَمِينَ قَبْلَ وُجُودِهِمْ/ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الِاخْتِبَارِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : فِتْنَةً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِنَبْلُوكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّتِ التَّنَاسُخِيَّةُ بِقَوْلِهِ: وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ فَإِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالْكَوْنِ فِيهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مَذْكُورٌ مَجَازًا.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أَنَّهُمْ يُرْجَعُونَ إِلَى حُكْمِهِ وَمُحَاسَبَتِهِ وَمُجَازَاتِهِ، فَبَيَّنَ بِذَلِكَ بُطْلَانَ قَوْلِهِمْ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ وَالْمَعَادِ، وَاسْتَدَلَّتِ التَّنَاسُخِيَّةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى مَوْضِعٍ مَسْبُوقٍ بِالْكَوْنِ فِيهِ، وَقَدْ كُنَّا مَوْجُودِينَ قَبْلَ دُخُولِنَا فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاسْتَدَلَّتِ الْمُجَسِّمَةُ بِأَنَّا أَجْسَامٌ، فَرُجُوعُنَا إِلَى اللَّه تَعَالَى يَقْتَضِي كَوْنَ اللَّه تَعَالَى جِسْمًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً
قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي جَهْلٍ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ لِأَبِي سُفْيَانَ: هَذَا نَبِيُّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا فِي بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ. فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُمَا فَقَالَ لِأَبِي جَهْلٍ: «مَا أَرَاكَ تَنْتَهِي حَتَّى يَنْزِلَ بِكَ مَا نَزَلَ بِعَمِّكَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أَبَا سُفْيَانَ: فَإِنَّمَا قُلْتَ مَا قُلْتَ حَمِيَّةً» فنزلت