الآية في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أُوهِمُوا أَنَّهُ يُمَازِحُ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ فِي أَصْنَامِهِمْ أَظْهَرَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَعْلَمُونَ بِهِ أَنَّهُ مُجِدٌّ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ الَّذِي هُوَ التَّوْحِيدُ وَذَلِكَ بِالْقَوْلِ أَوَّلًا وَبِالْفِعْلِ ثَانِيًا، أَمَّا الطَّرِيقَةُ الْقَوْلِيَّةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَهَذِهِ الدَّلَالَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَالِقَ الذي خلقها لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ هُوَ الَّذِي يَحْسُنُ أَنْ يُعْبَدَ لِأَنَّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَضُرَّ وَيَنْفَعَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِالْعِقَابِ وَالثَّوَابِ. فَيَرْجَعُ حَاصِلُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِلَى الطَّرِيقَةِ التي ذكرها لأبيه في قوله: يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
مَرْيَمَ: 42 قال صاحب «الكشاف» : الضمير في فطرهن للسموات وَالْأَرْضِ أَوْ لِلتَّمَاثِيلِ، وَكَوْنُهُ لِلتَّمَاثِيلِ أَدْخَلَ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّأْكِيدِ وَالتَّحْقِيقِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ إِذَا بَالَغَ فِي مَدْحِ أَحَدٍ أَوْ ذَمِّهِ أَشْهَدُ أَنَّهُ كَرِيمٌ أَوْ ذَمِيمٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنَى بِقَوْلِهِ: وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ادِّعَاءَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِثْبَاتِ مَا ذَكَرَهُ بِالْحُجَّةِ، وَأَنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ فَأَقُولُ مَا لَا أَقْدِرُ عَلَى إِثْبَاتِهِ بِالْحُجَّةِ، كَمَا لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى الِاحْتِجَاجِ لِمَذْهَبِكُمْ وَلَمْ تَزِيدُوا عَلَى أَنَّكُمْ وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ، وَأَمَّا الطَّرِيقَةُ الْفِعْلِيَّةُ فَهِيَ قَوْلُهُ: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَإِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا لَمْ يَنْتَفِعُوا بِالدَّلَالَةِ الْعَقْلِيَّةِ عَدَلَ إِلَى أَنْ أَرَاهُمْ عَدَمَ الْفَائِدَةِ فِي عِبَادَتِهَا، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَرَأَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وباللَّه، وَقُرِئَ تَوَلَّوْا بِمَعْنَى تَتَوَلَّوْا وَيُقَوِّيهَا قَوْلُهُ: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَاءِ وَالتَّاءِ؟ قُلْتُ: إِنَّ الْبَاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّاءَ بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ الْمُبْدَلِ مِنْهَا وَالتَّاءُ فِيهَا زِيَادَةُ مَعْنًى وَهُوَ التَّعَجُّبُ، كَأَنَّهُ تَعَجَّبَ مِنْ تَسْهِيلِ الْكَيْدِ عَلَى يَدِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَمْرًا مَقْنُوطًا مِنْهُ لِصُعُوبَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنْ قِيلَ لِمَاذَا قَالَ: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَالْكَيْدُ هُوَ الِاحْتِيَالُ عَلَى الْغَيْرِ فِي ضَرَرٍ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْأَصْنَامِ. وَجَوَابُهُ: قَالَ ذَلِكَ تَوَسُّعًا لَمَّا كَانَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الضَّرَرَ يَجُوزُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ لَأَكِيدَنَّكُمْ فِي أَصْنَامِكُمْ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قَدْ أَنْزَلَ بِهِمُ الْغَمَّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي كَيْفِيَّةِ أَوَّلِ الْقِصَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا عَلَى الْأَصْنَامِ فَسَجَدُوا لَهَا ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْوَقْتُ قَالَ آزَرُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ وَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ أَشْتَكِي رِجْلِي فَلَمَّا مَضَوْا وَبَقِيَ ضُعَفَاءُ النَّاسِ نَادَى وَقَالَ: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وَاحْتَجَّ هَذَا الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ. وَثَانِيهَا: قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ يَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ وَكَانُوا إِذَا خَرَجُوا إِلَى عِيدِهِمْ لَمْ يَتْرُكُوا إِلَّا مَرِيضًا فَلَمَّا هَمَّ إِبْرَاهِيمُ بِالَّذِي هَمَّ بِهِ مِنْ كَسْرِ الْأَصْنَامِ نَظَرَ قَبْلَ يَوْمِ الْعِيدِ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: أَرَانِي أَشْتَكِي غَدًا فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ الصَّافَّاتِ: 88، 89