لَشَدِيدُ الظُّلْمِ مَعْدُودٌ فِي الْظَلَمَةِ إِمَّا لِجَرَاءَتِهِ عَلَى الْآلِهَةِ الْحَقِيقَةِ بِالتَّوْقِيرِ وَالْإِعْظَامِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ رَأَوْا إِفْرَاطًا فِي كَسْرِهَا وَتَمَادِيًا فِي الِاسْتِهَانَةِ بِهَا.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: ارْتَفَعَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَعْنًى يُقَالُ هُوَ إِبْرَاهِيمُ.
وَالثَّانِي: عَلَى النِّدَاءِ عَلَى مَعْنًى يُقَالُ لَهُ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ فَاعِلُ يُقَالُ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْمُ دُونَ الْمُسَمَّى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ جَمَاعَةٌ لَا وَاحِدٌ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ قَدْ عَرَفُوا مِنْهُ وَسَمِعُوا مَا يَقُولُهُ فِي آلِهَتِهِمْ فَغَلَبَ عَلَى قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ الْفَاعِلُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا قَوْلُهُ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ إلى غير ذلك لكفى.
سورة الأنبياء (21) : الآيات 61 الى 67قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67)
اعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا شَاهَدُوا كَسْرَ الْأَصْنَامِ، وَقِيلَ إِنَّ فَاعِلَهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ فِي مَحَلِّ الْحَالِ أَيْ فَأْتُوا بِهِ مُشَاهَدًا أَيْ بِمَرْأًى مِنْهُمْ وَمَنْظَرٍ. فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ فِي عَلَى؟ قُلْتُ: هُوَ وَارِدٌ عَلَى طَرِيقِ الْمَثَلِ أَيْ يثبت إتيانه فِي الْأَعْيُنِ ثَبَاتَ الرَّاكِبِ عَلَى الْمَرْكُوبِ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَجِيئُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِمَا قَالَهُ فَيَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ بِمَا فَعَلَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ. وَثَانِيهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَيْ يَحْضُرُونَ فَيُبْصِرُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ زَاجِرًا لَهُمْ عَنِ الْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ فِعْلِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ أَنَّ الْمُرَادَ مَجْمُوعُ الْوَجْهَيْنِ فَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ وَيَشْهَدُونَ عِقَابَهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْكَلَامِ حَذْفًا، وَهُوَ: فَأَتَوْا بِهِ وَقَالُوا أَأَنْتَ/ فَعَلْتَ، طَلَبُوا مِنْهُ الِاعْتِرَافَ بِذَلِكَ لِيُقْدِمُوا عَلَى إِيذَائِهِ، فَظَهَرَ مِنْهُ مَا انْقَلَبَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَمَنَّوُا الْخَلَاصَ مِنْهُ، فَقَالَ:
بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا وَقَدْ عَلَّقَ الْفَأْسَ عَلَى رَقَبَتِهِ لِكَيْ يُورِدَ هَذَا الْقَوْلَ فَيَظْهَرَ جَهْلُهُمْ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ: بَلْ فَعَلُهُ كَبِيرُهُمْ كَذِبٌ. وَالْجَوَابُ لِلنَّاسِ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ كَافَّةِ الْمُحَقِّقِينَ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَذِبٍ، وَذَكَرُوا فِي الِاعْتِذَارِ عَنْهُ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ قَصْدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ إِلَى أَنْ يَنْسُبَ الْفِعْلَ