أَرْفَعَ دَرَجَةً مِنَ الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَيْسَ قُصَارَاهُ إِلَّا الظَّنَّ. قُلْنَا: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ لَا يَجِدَ النَّصَّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، فَلَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الِاجْتِهَادِ لَكَانَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنَ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ الْحُكْمَ مِنَ الِاجْتِهَادِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالِاجْتِهَادِ كَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلْقَطْعِ بِالْحُكْمِ. وَرَابِعُهَا:
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ لِلْأَنْبِيَاءِ دَرَجَةُ الِاجْتِهَادِ لِيَرِثَ الْعُلَمَاءُ عَنْهُمْ ذَلِكَ. هَذَا تَمَامُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ التَّوْبَةِ: 43 فَذَاكَ الْإِذْنُ إِنْ كَانَ بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى اسْتَحَالَ أَنْ يَقُولَ: لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِهَوَى النَّفْسِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَإِنْ كَانَ بِالِاجْتِهَادِ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
الْمَأْخَذُ الثَّانِي: قَالَ الْجُبَّائِيُّ: لَوْ جَوَّزْنَا الِاجْتِهَادَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَجِبُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الَّذِي وَصَلَ إِلَى صَاحِبِ الزَّرْعِ مِنْ دَرِّ الْمَاشِيَةِ وَمِنْ مَنَافِعِهَا مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الِاجْتِهَادِ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنِ الْآخَرِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ اجْتِهَادَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنْ كَانَ صَوَابًا لَزِمَ أَنْ لَا يُنْقَضَ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا ينتقض بِالِاجْتِهَادِ. وَإِنْ كَانَ خَطَأً وَجَبَ أَنْ يُبَيِّنَ اللَّه تَعَالَى تَوْبَتَهُ كَسَائِرِ مَا حَكَاهُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَلَمَّا مَدَحَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقَعِ الْخَطَأُ مِنْ دَاوُدَ. وَثَالِثُهَا: لَوْ حَكَمَ بِالِاجْتِهَادِ لَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ ظَنًّا لَا عِلْمًا لَأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً. وَرَابِعُهَا: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ/ عَنِ اجتهاد من مَعَ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْقَدْرِ لَا تَمْنَعُ مِنَ الِاجْتِهَادِ كَالْجَعَالَاتِ وَحُكْمِ الْمُصَرَّاةِ. وَعَنِ الثَّانِي: لَعَلَّهُ كَانَ خَطَأً مِنْ بَابِ الصَّغَائِرِ. وَعَنِ الثَّالِثِ: بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِالْقِيَاسِ فَالظَّنُّ وَاقِعٌ فِي طَرِيقِ إِثْبَاتِ الْحُكْمِ فَأَمَّا الْحُكْمُ فَمَقْطُوعٌ بِهِ. وَعَنِ الرَّابِعِ: أَنَّهُ إِذَا تَأَمَّلَ وَاجْتَهَدَ فَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى مَا ذَكَرْنَا كَانَ اللَّه تَعَالَى فَهَّمَهُ مِنْ حَيْثُ بَيَّنَ لَهُ طَرِيقَ ذلك. فهذا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إِنَّمَا كَانَ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا فِيهِ بِسَبَبِ النَّصِّ فَطَرِيقُهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مَأْمُورًا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْحُكْمِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسَخَ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ إِلَى سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَ دَاوُدَ ذَلِكَ فَصَارَ ذَلِكَ الْحُكْمُ حُكْمَهُمَا جَمِيعًا فَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ أَيْ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ هَذَا بَاطِلٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْحُكْمَ الْأَوَّلَ عَلَى دَاوُدَ وَجَبَ أَنْ يَنْزِلَ نَسْخُهُ أَيْضًا عَلَى دَاوُدَ لَا عَلَى سُلَيْمَانَ. الثَّانِي: أَنَّ اللَّه تَعَالَى مَدَحَ كُلًّا مِنْهُمَا عَلَى الْفَهْمِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ النَّصِّ لَمْ يَكُنْ فِي فَهْمِهِ كَثِيرُ مَدْحٍ إِنَّمَا الْمَدْحُ الْكَثِيرُ عَلَى قُوَّةِ الْخَاطِرِ وَالْحَذَاقَةِ فِي الِاسْتِنْبَاطِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: إِذَا أَثْبَتُّمْ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُهُمَا لِأَجْلِ النَّصِّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى. وَالْجَوَابُ: الِاجْتِهَادُ أَرْجَحُ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ
رُوِيَ فِي الْأَخْبَارِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يَكُنْ قَدْ بَتَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى سَمِعَ مِنْ سُلَيْمَانَ أَنَّ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْلَى،
وَفِي بَعْضِهَا أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاشَدَهُ لِكَيْ يُورِدَ مَا عِنْدَهُ وَكُلُّ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِالنَّصِّ،
لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَصًّا لَكَانَ يُظْهِرُهُ وَلَا يَكْتُمُهُ.
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: بَيِّنُوا أَنَّهُ كَيْفَ كَانَ طَرِيقُ الِاجْتِهَادِ. الْجَوَابُ: أَنَّ وَجْهَ الِاجْتِهَادِ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا مِنْ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوَّمَ قَدْرَ الضَّرَرِ بِالْكَرْمِ فَكَانَ مُسَاوِيًا لِقِيمَةِ الْغَنَمِ فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ الضَّرَرِ أَنْ يُزَالَ بِمِثْلِهِ مِنَ النَّفْعِ فَلَا جَرَمَ سَلَّمَ الْغَنَمَ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي الْعَبْدِ إِذَا جَنَى عَلَى النَّفْسِ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَإِنَّ اجْتِهَادَهُ أدى إلى أنه يجب