يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الْفِعْلُ. وَالثَّانِي: أَيْضًا مُحَالٌ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ عِنْدَهُمْ مَنْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكَلَامِ لَا مَنْ كَانَ مَحَلًّا لِلْكَلَامِ، فَلَوْ كَانَ فَاعِلُ ذَلِكَ الْكَلَامِ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ الْمُتَكَلِّمُ هُوَ اللَّه تَعَالَى لَا الْجَبَلُ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَعِنْدَ هَذَا قَالُوا فِي: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ ومثله قوله تعالى: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ سَبَأٍ: 10 مَعْنَاهُ تَصَرَّفِي مَعَهُ وَسِيرِي بِأَمْرِهِ وَيُسَبِّحْنَ مِنَ السَّبْحِ الَّذِي السِّبَاحَةُ خَرَجَ اللَّفْظُ فِيهِ عَلَى التَّكْثِيرِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدِ التَّكْثِيرَ لَقِيلَ يَسْبَحْنَ فَلَمَّا كَثُرَ قِيلَ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ، أَيْ سِيرِي وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا الْمُزَّمِّلِ: 7 أَيْ تَصَرُّفًا وَمَذْهَبًا. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ سَيْرَهَا هُوَ التَّسْبِيحُ لِدَلَالَتِهِ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى سَائِرِ مَا تَنَزَّهَ عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى أَنَّ بِنْيَةَ الْجَبَلِ لَا تَقْبَلُ الْحَيَاةَ، وَهَذَا مَمْنُوعٌ وَعَلَى أَنَّ التَّكَلُّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّه وَهُوَ أَيْضًا مَمْنُوعٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا الطَّيْرُ فَلَا امْتِنَاعَ فِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهَا الْكَلَامُ، وَلَكِنْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ إِمَّا الْجِنُّ أَوِ الْإِنْسُ أَوِ الْمَلَائِكَةُ فَيَمْتَنِعُ فِيهَا أَنْ تَبْلُغَ فِي الْعَقْلِ إِلَى دَرَجَةِ التَّكْلِيفِ، بَلْ تَكُونُ عَلَى حَالَةٍ كَحَالِ الطِّفْلِ فِي أَنْ يُؤْمَرَ وَيُنْهَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا فَصَارَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً مِنْ حَيْثُ جَعَلَهَا فِي الْفَهْمِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرَاهِقِ، وَأَيْضًا فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَعَلَى تَنَزُّهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْجِبَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : يُسَبِّحْنَ حَالٌ بِمَعْنَى مُسَبِّحَاتٍ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: كَيْفَ سَخَّرَهُنَّ؟ فَقَالَ: يُسَبِّحْنَ. وَالطَّيْرَ إِمَّا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجِبَالِ وَإِمَّا مَفْعُولٌ مَعَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قُدِّمَتِ الْجِبَالُ عَلَى الطَّيْرِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ تَسْخِيرَهَا وَتَسْبِيحَهَا أَعْجَبُ وَأَدَلُّ عَلَى الْقُدْرَةِ وَأَدْخَلُ فِي الْإِعْجَازِ، لِأَنَّهَا جَمَادٌ وَالطَّيْرُ حَيَوَانٌ نَاطِقٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَكُنَّا فاعِلِينَ فَالْمَعْنَى أَنَّا قَادِرُونَ عَلَى أَنْ نَفْعَلَ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَجَبًا عِنْدَكُمْ وَقِيلَ نَفْعَلُ ذلك بالأنبياء عليهم السلام.
الثاني: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اللَّبُوسُ اللِّبَاسُ، قَالَ الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِتُحْصِنَكُمْ قُرِئَ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَالتَّاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ وَتَشْدِيدِهَا، فَالنُّونُ للَّه عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّاءُ لِلصَّنْعَةِ أَوْ لِلَّبُوسِ عَلَى تَأْوِيلِ الدِّرْعِ وَالْيَاءُ للَّه تَعَالَى أَوْ لِدَاوُدَ أَوْ لِلَّبُوسِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدِّرْعَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ صَفَائِحَ قَبْلَهُ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَرَدَهَا وَاتَّخَذَهَا حِلَقًا،
ذَكَرَ الْحَسَنُ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَضَرَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ الدِّرْعَ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْأَلَ عَمَّا يَفْعَلُ ثُمَّ سَكَتَ حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا وَلَبِسَهَا عَلَى نَفْسِهِ، فَقَالَ: الصَّمْتُ حِكْمَةٌ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ «1»
قَالُوا إِنَّ اللَّه تَعَالَى أَلَانَ الْحَدِيدَ لَهُ يَعْمَلُ مِنْهُ بِغَيْرِ نَارٍ كَأَنَّهُ طِينٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْبَأْسُ هَاهُنَا الْحَرْبُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى السُّوءِ كُلِّهِ، وَالْمَعْنَى لِيَمْنَعَكُمْ وَيَحْرُسَكُمْ مِنْ/ بَأْسِكُمْ أَيْ مِنَ الْجَرْحِ وَالْقَتْلِ والسيف والسهم والرمح.