فَأَفْحَمَهُ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّه بْنُ الزِّبَعْرَى فَرَآهُمْ يَتَهَامَسُونَ فَقَالَ: فِيمَ خَوْضُكُمْ؟ فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِقَوْلِ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال عَبْدُ اللَّه أَمَّا واللَّه لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ فَدَعَوْهُ، فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى أَأَنْتَ قُلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ نَعَمْ، قَالَ قَدْ خَصَمْتُكَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ أَلَيْسَ الْيَهُودُ عَبَدُوا عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى عَبَدُوا الْمَسِيحَ وبنوا مَلِيحٍ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ «1» ثُمَّ رُوِيَ فِي ذَلِكَ روايتان: إحداها: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَكَتَ وَلَمْ يُجِبْ فَضَحِكَ الْقَوْمُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ الزُّخْرُفِ: 57، 58 وَنَزَلَ فِي عِيسَى وَالْمَلَائِكَةِ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الْأَنْبِيَاءِ: 101 الْآيَةَ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَجَابَ وَقَالَ بَلْ هُمْ عَبَدُوا الشَّيَاطِينَ الَّتِي أَمَرَتْهُمْ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّه سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الْأَنْبِيَاءِ: 101 الْآيَةَ
يَعْنِي عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ وَاعْلَمْ أَنَّ سُؤَالَ ابْنِ الزِّبَعْرَى سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَطْ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ وَمَنْ تَعْبُدُونَ بَلْ قَالَ مَا تَعْبُدُونَ وَكَلِمَةُ مَا لَا تَتَنَاوَلُ الْعُقَلَاءَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالسَّماءِ وَما بَناها الشَّمْسِ: 5 وَقَوْلُهُ: لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ الْكَافِرُونَ: 2 فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّيْءِ وَنَظِيرُهُ هَاهُنَا أَنْ يُقَالَ: إِنَّكُمْ وَالشَّيْءَ الَّذِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّه لَكِنْ لَفْظُ الشَّيْءِ لَا يُفِيدُ الْعُمُومَ فَلَا يَتَوَجَّهُ سُؤَالُ ابْنِ الزِّبَعْرَى. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مَنْ عَبَدَ الْمَلَائِكَةَ لَا يَدَّعِي أَنَّهُمْ آلِهَةٌ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ:
لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها. وَرَابِعُهَا: هَبْ أَنَّهُ ثَبَتَ الْعُمُومُ لَكِنَّهُ/ مَخْصُوصٌ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ لِبَرَاءَتِهِمْ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَوَعَدَ اللَّه إِيَّاهُمْ بِكُلِّ مَكْرُمَةٍ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ الْأَنْبِيَاءِ: 101 . وَخَامِسُهَا: الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ، فَإِنْ قِيلَ الشَّيَاطِينُ عُقَلَاءُ، وَلَفْظُ مَا لَا يَتَنَاوَلُهُمْ فَكَيْفَ قَالَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا كَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: لَوْ ثَبَتَ لَكُمْ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْعُقَلَاءَ فَسُؤَالُكُمْ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَمَّا مَا قِيلَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَكَتَ عِنْدَ إِيرَادِ ابْنِ الزِّبَعْرَى هَذَا السُّؤَالَ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَتَنَبَّهُ لِهَذِهِ الْأَجْوِبَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُمْ بِاللُّغَةِ وَبِتَفْسِيرِ الْقُرْآنِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ لِغَيْرِهِ، وَلَا يَظْهَرَ شَيْءٌ مِنْهَا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فَإِنْ قِيلَ: جَوَّزُوا أَنْ يَسْكُتَ عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتِظَارًا لِلْبَيَانِ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ الْبَيَانُ حَاضِرًا مَعَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ السُّكُوتُ لِكَيْ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الِانْقِطَاعُ عَنْ سُؤَالِهِمْ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ أَجَابَ عَنْ سُؤَالِ ابْنِ الزِّبَعْرَى فَقَالَ:
إِنَّ اللَّه تَعَالَى يُصَوِّرُ لَهُمْ فِي النَّارِ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ مَنْ عَبَدُوهُ، وَحِينَئِذٍ تَبْقَى الْآيَةُ عَلَى ظَاهِرِهَا وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَعْبُدُوا تِلْكَ الصُّورَةَ وَإِنَّمَا عَبَدُوا شَيْئًا آخَرَ لَمْ يَحْصُلْ مَعَهُمْ فِي النَّارِ.
الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الْمَلَكَ لَا يَصِيرُ حَصَبَ جَهَنَّمَ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنْ صَحَّ أَنْ يَدْخُلَهَا، فَإِنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَدْخُلُونَهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا حَصَبَ جَهَنَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحِكْمَةُ في أنهم قرنوا بآلهتهم أمور. أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ لِمُقَارَنَتِهِمْ فِي زِيَادَةِ غم