السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَالَ مُقَاتِلٌ: الْخَيْرُ هُوَ ضِدُّ الشَّرِّ فَلَمَّا قَالَ: فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ الْجَوَابُ: لَمَّا كَانَتِ الشِّدَّةُ لَيْسَتْ بِقَبِيحَةٍ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى وَإِنْ أَصَابَهُ شَرٌّ بَلْ وَصَفَهُ بِمَا لَا يُفِيدُ فِيهِ الْقُبْحَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ فَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَخْسَرُ فِي الدُّنْيَا الْعِزَّةَ وَالْكَرَامَةَ وَإِصَابَةَ الْغَنِيمَةِ وَأَهْلِيَّةَ الشَّهَادَةِ وَالْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ وَلَا يَبْقَى مَالُهُ وَدَمُهُ مَصُونًا، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَفُوتُهُ الثَّوَابُ الدَّائِمُ وَيَحْصُلُ لَهُ الْعِقَابُ الدائم وذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ.
أما قوله: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ فَالْأَقْرَبُ أَنَّهُ الْمُشْرِكُ الَّذِي يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَهَذَا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَرِدْ فِي الْيَهُودِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّه الْأَصْنَامَ، وَالْأَقْرَبُ أَنَّهَا وَارِدَةٌ فِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ انْقَطَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ النِّفَاقِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ، وَأَرَادَ بِهِ عِظَمَ ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعْنِيَ بِذَلِكَ بُعْدَ ضَلَالِهِمْ عَنِ الصَّوَابِ لِأَنَّ جَمِيعَهُ وَإِنْ كَانَ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ خَطَأٌ فَبَعْضُهُ أَبْعَدُ مِنَ الْحَقِّ مِنَ الْبَعْضِ، وَاسْتُعِيرَ الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التِّيهِ ضَالًّا وَطَالَتْ وَبَعُدَتْ مَسَافَةُ ضَلَالِهِ.
أَمَّا قوله تعالى: يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ رُؤَسَاؤُهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَفْزَعُونَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يَضُرُّوا، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّهُمْ وَلَا تَنْفَعُهُمْ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي كَوْنَ الْمَذْكُورِ فِيهَا ضَارًّا نَافِعًا، فَلَوْ كَانَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْأَوْثَانَ لَزِمَ التَّنَاقُضُ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ الْوَثَنُ وَأَجَابُوا عَنِ التَّنَاقُضِ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ وَذَلِكَ يَكْفِي فِي إِضَافَةِ الضَّرَرِ إِلَيْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ إِبْرَاهِيمَ: 36 فَأَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا سَبَبًا لِلضَّلَالِ، فَكَذَا هَاهُنَا نَفَى الضَّرَرَ عَنْهُمْ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِمَعْنَى كَوْنِهَا فَاعِلَةً وَأَضَافَ الضَّرَرَ إِلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَعْنَى أَنَّ عِبَادَتَهَا سَبَبُ الضَّرَرِ. وَثَانِيهَا: كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى أَنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، ثم قال فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: لَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكِنَّ ضَرَرَهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا. وَثَالِثُهَا: كَانَ الْكُفَّارُ إِذَا أَنْصَفُوا عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ مِنْهَا نَفْعٌ وَلَا ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ يُشَاهِدُونَ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ بِسَبَبِ عِبَادَتِهَا، فَكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ: إِنَّ ضَرَرَكُمْ أَعْظَمُ مِنْ نَفْعِكُمْ.
المسألة الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي إِعْرَابِ قَوْلِهِ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ فَالْمَوْلَى هُوَ الْوَلِيُّ وَالنَّاصِرُ، وَالْعَشِيرُ الصَّاحِبُ وَالْمُعَاشِرُ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالرُّؤَسَاءِ أَلْيَقُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَوْثَانِ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَعْدِلُونَ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى الَّذِي يَجْمَعُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَإِلَى طَاعَةِ الرُّؤَسَاءِ، ثُمَّ ذَمَّ الرُّؤَسَاءَ بِقَوْلِهِ: لَبِئْسَ الْمَوْلى وَالْمُرَادُ ذم من انتصر بهم والتجأ إليهم.