وَبِطَارِقَتِهَا قُلْتُ: مَا هَذَا قَالُوا: تَحِيَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ «1»
وَعَنِ الثوري عن سماك بن هاني قَالَ: دَخَلَ الْجَاثَلِيقُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ لَهُ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ اسْجُدْ لِلَّهِ وَلَا تَسْجُدْ لِي.
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللَّهِ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا لِعِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ السُّجُودَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ هُوَ الِانْقِيَادُ وَالْخُضُوعُ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
أَيْ تِلْكَ الْجِبَالُ الصِّغَارُ كَانَتْ مُذَلَّلَةً لِحَوَافِرِ الْخَيْلِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ الرَّحْمَنِ: 6 وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ شَرْحُ تَعْظِيمِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعْلُهُ مُجَرَّدَ الْقِبْلَةِ لَا يُفِيدُ تَعْظِيمَ حَالِهِ وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ أَيْضًا لِأَنَّ السُّجُودَ لَا شَكَّ أَنَّهُ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ وَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغْيِيرِ فَإِنْ قِيلَ السُّجُودُ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ لِغَيْرِ اللَّهِ لَا تَجُوزُ قُلْنَا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ عِبَادَةٌ، بَيَانُهُ أَنَّ الْفِعْلَ قَدْ يَصِيرُ بِالْمُوَاضَعَةِ مُفِيدًا كَالْقَوْلِ يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ أَحَدِنَا لِلْغَيْرِ يُفِيدُ مِنَ الْإِعْظَامِ ما يفيده القول وما ذاك إلا للعبادة وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ سُقُوطُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْأَرْضِ وَإِلْصَاقُهُ الْجَبِينَ بِهَا مُفِيدًا ضَرْبًا مِنَ التَّعْظِيمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِبَادَةً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَتَعَبَّدَ اللَّهُ الْمَلَائِكَةَ بِذَلِكَ إِظْهَارًا لِرِفْعَتِهِ وَكَرَامَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ إِبْلِيسَ هَلْ كَانَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: وَلَا سِيَّمَا الْمُعْتَزِلَةُ إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِنَّهُ كَانَ مِنْهُمْ وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْكَهْفِ: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ الْكَهْفِ: 50 وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّ الْجِنَّ جِنْسٌ مُخَالِفٌ لِلْمَلَكِ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْجِنَّ مَأْخُوذٌ مِنَ الِاجْتِنَانِ وَهُوَ السَّتْرُ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْجَنِينُ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ وَمِنْهُ الْجُنَّةُ لِكَوْنِهَا سَاتِرَةً وَالْجَنَّةُ لِكَوْنِهَا مُسْتَتِرَةً بِالْأَغْصَانِ وَمِنْهُ الْجُنُونُ لِاسْتِتَارِ الْعَقْلِ فِيهِ، وَلَمَّا ثَبَتَ هَذَا وَالْمَلَائِكَةُ مَسْتُورُونَ عَنِ الْعُيُونِ وَجَبَ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْجِنِّ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ اللُّغَةِ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُفِيدُ الْمَقْصُودَ فَنَقُولُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ سَبَأٍ: 40، 41 وَهَذِهِ الْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْجِنِّ وَالْمَلَكِ. فَإِنْ قِيلَ لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَمَّا قَوْلُهُ تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ كَانَ مِنَ الْجَنَّةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَيْ كان خازن الجنة سلمنا ذلك لكن لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: مِنَ الْجِنِّ أَيْ صَارَ مِنَ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ أَيْ صَارَ مِنَ الْكَافِرِينَ سَلَّمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتَ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْجِنِّ فَلِمَ قُلْتَ إِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْجِنِّ يُنَافِي كَوْنَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الْآيَةِ مُعَارَضٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً الصَّافَّاتِ: 158 وَذَلِكَ لِأَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ فهذه الآية تدل على أن الملك يمسي جِنًّا؟
وَالْجَوَابُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كانَ مِنَ الْجِنِّ أَنَّهُ كَانَ خَازِنَ الْجَنَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ يُشْعِرُ بِتَعْلِيلِ تَرْكِهِ لِلسُّجُودِ لِكَوْنِهِ جِنِّيًّا وَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُ تَرْكِ السُّجُودِ بِكَوْنِهِ خَازِنًا لِلْجَنَّةِ فَيُبْطِلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ