عَنْهُمَا «إِنَّهُ مَنْ جَاءَتْهُ رُخْصَةٌ فَرَغِبَ عَنْهَا كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَحْمِلَ ثِقَلَ تِنِّينٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ»
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا اجْتَمَعَ أَمْرَانِ فَأَحَبُّهُمَا إِلَى اللَّه تَعَالَى أَيْسَرُهُمَا»
وَعَنْ كَعْبٍ: أَعْطَى اللَّه هذه الأمة ثلاثا لم يعطهم إِلَّا لِلْأَنْبِيَاءِ: «جَعَلَهُمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، وَقَالَ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» .
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، فَقَالُوا: لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ فِي الْكَافِرِ وَالْعَاصِي ثُمَّ نَهَاهُ عَنْهُمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ بِصَرِيحِ هَذَا النَّصِّ وَالْجَوَابُ: لَمَّا أَمَرَهُ بِتَرْكِ الْكُفْرِ وَتَرْكُ الْكُفْرِ يَقْتَضِي انْقِلَابَ عِلْمِهِ جَهْلًا فَقَدْ أَمَرَ اللَّه الْمُكَلَّفَ بِقَلْبِ عِلْمِ اللَّه جَهْلًا وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْحَرَجِ، وَلَمَّا اسْتَوَى الْقَدَمَانِ زَالَ السُّؤَالُ.
الْمُوجِبُ الثَّانِي: لِقَبُولِ التَّكْلِيفِ قَوْلُهُ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي نَصْبِ الْمِلَّةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِمَضْمُونِ مَا تَقَدَّمَهَا كَأَنَّهُ قِيلَ وَسَّعَ دِينَكُمْ تَوْسِعَةَ مِلَّةِ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ أَيْ أَعْنِي بِالدِّينِ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ التَّكَالِيفَ وَالشَّرَائِعَ هِيَ شَرِيعَةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَالْعَرَبُ كَانُوا مُحِبِّينَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِ، فَكَانَ التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ كَالسَّبَبِ لِصَيْرُورَتِهِمْ مُنْقَادِينَ لِقَبُولِ هَذَا الدِّينِ وَهَاهُنَا سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: لِمَ قَالَ: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ وَلَمْ يُدْخِلْ فِي الخطاب المؤمنون الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ؟ «1» وَالْجَوَابُ: مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مِنْ وَلَدِهِ كَالرَّسُولِ وَرَهْطِهِ وَجَمِيعِ الْعَرَبِ جَازَ ذَلِكَ وَثَانِيهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى جَعْلَ حُرْمَةَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الَأَحْزَابِ: 6 فَجَعَلَ حُرْمَتَهُ كَحُرْمَةِ الْوَالِدِ عَلَى الْوَلَدِ، وَحُرْمَةَ نِسَائِهِ كَحُرْمَةِ الْوَالِدَةِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ الَأَحْزَابِ:
6 .
السُّؤَالُ الثَّانِي: هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ كَمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ سَوَاءً، فَيَكُونُ الرَّسُولُ لَيْسَ لَهُ شَرْعٌ مَخْصُوصٌ وَيُؤَكِّدُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ النَّحْلِ: 123 ، الْجَوَابُ: هَذَا الْكَلَامُ إِنَّمَا وَقَعَ مَعَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: عِبَادَةُ اللَّه وَتَرْكُ الْأَوْثَانِ هِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ فَأَمَّا تَفَاصِيلُ الشَّرَائِعِ فَلَا تَعَلُّقَ لَهَا بِهَذَا الْمَوْضِعِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ؟ الْجَوَابُ: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا:
أَنَّ الْكِنَايَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ:
رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ الْبَقَرَةِ: 128 فَاسْتَجَابَ اللَّه تَعَالَى لَهُ فَجَعَلَهَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّه تَعَالَى سَيَبْعَثُ مُحَمَّدًا بِمِثْلِ مِلَّتِهِ وَأَنَّهُ سَتُسَمَّى أُمَّتُهُ بِالْمُسْلِمِينَ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْكِنَايَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: هُوَ اجْتَباكُمْ فَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» أَيْ فِي كُلِّ الْكُتُبِ، وَفِي هَذَا أَيْ فِي الْقُرْآنِ. وَهَذَا الوجه أَقْرَبُ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فبين أنه سماهم بذلك لهذا