وَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ لِأَنَّ وُجُودَ التَّقْلِيدِ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الشَّيْءِ فَعَدَمُهُ مِنْ أَيْنَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ بِهِ جِنَّةٌ، فَقَدْ كَذَبُوا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالضَّرُورَةِ كَمَالَ عَقْلِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: فَتَرَبَّصُوا بِهِ، فَضَعِيفٌ لأنه إن ظهرت الدولة عَلَى نُبُوَّتِهِ وَهِيَ الْمُعْجِزَةُ وَجَبَ عَلَيْهِمْ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي الْحَالِ، وَلَا يَجُوزُ تَوْقِيفُ ذَلِكَ إِلَى ظُهُورِ دَوْلَتِهِ لِأَنَّ الدَّوْلَةَ لَا تَدُلُّ على الحقيقة، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرِ الْمُعْجِزُ لَمْ يَجُزْ قَبُولُ/ قَوْلِهِ سَوَاءٌ ظَهَرَتِ الدَّوْلَةُ أَوْ لَمْ تَظْهَرْ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْأَجْوِبَةُ فِي نِهَايَةِ الظُّهُورِ لا جرم تركها اللَّه سبحانه.
سورة المؤمنون (23) : الآيات 26 الى 30قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ فِي نَصْرِهِ إِهْلَاكَهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَهْلِكْهُمْ بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ إِيَّايَ وَثَانِيهَا: انْصُرْنِي بَدَلَ مَا كَذَّبُونِي كَمَا تَقُولُ هَذَا بِذَاكَ أَيْ بَدَلُ ذَاكَ وَمَكَانُهُ، وَالْمَعْنَى أَبْدِلْنِي مِنْ غَمِّ تَكْذِيبِهِمْ سَلْوَةَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَثَالِثُهَا: انْصُرْنِي بِإِنْجَازِ مَا وَعَدْتَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ وَهُوَ مَا كَذَّبُوهُ فِيهِ حِينَ قَالَ لَهُمْ:
إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ الْأَعْرَافِ: 59 وَلَمَّا أَجَابَ اللَّه دُعَاءَهُ قَالَ: فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا أَيْ بِحِفْظِنَا وَكَلَئِنَا كَأَنَّ مَعَهُ مِنَ اللَّه حَافِظًا يَكْلَؤُهُ بِعَيْنِهِ لِئَلَّا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَلَا يُفْسِدَ عَلَيْهِ مُفْسِدٌ عَمَلَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: عَلَيْهِ مِنَ اللَّه عَيْنٌ كَالِئَةٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ فِي تَمَسُّكِهِمْ
بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّ اللَّه خَلَقَ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ»
لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَعْيُنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ صَنَعَ الْفُلْكَ فَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ نَجَّارًا وَكَانَ عَالِمًا بِكَيْفِيَّةِ اتِّخَاذِهَا، وَقِيلَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَّمَهُ عَمَلَ السَّفِينَةِ وَوَصَفَ لَهُ كَيْفِيَّةَ اتِّخَاذِهَا، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ لِقَوْلِهِ: بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِذا جاءَ أَمْرُنا فَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ كَمَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي طَلَبِ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْلَاءِ، فَكَذَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِي الشَّأْنِ الْعَظِيمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا أَمْرٌ بَقِيَ الذِّهْنُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَفْهُومَيْنِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِيهِمَا وَتَمَامُ تَقْرِيرِهِ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ الْمَحْصُولِ فِي الْأُصُولِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إِنَّمَا سَمَّاهُ أَمْرًا عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، مِثْلَ قَوْلُهُ: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً فُصِّلَتْ: 11 .
أَمَّا قَوْلُهُ: وَفارَ التَّنُّورُ فَاخْتَلَفُوا فِي التَّنُّورِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ هُوَ التَّنُّورُ الْمَعْرُوفُ. رُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لِنُوحٍ إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ مِنَ التَّنُّورِ فَارْكَبْ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ فِي السَّفِينَةِ، فَلَمَّا نَبَعَ الْمَاءُ مِنَ التَّنُّورِ أَخْبَرَتْهُ امرأته فركب، وقيل كان تنور آدم وكان مِنْ حِجَارَةٍ فَصَارَ إِلَى نُوحٍ، وَاخْتُلِفَ فِي مَكَانِهِ، فَعَنِ الشَّعْبِيِّ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ عَنْ يَمِينِ الدَّاخِلِ مِمَّا يَلِي بَابَ كِنْدَةَ، وَكَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَمِلَ السَّفِينَةَ فِي وَسَطِ الْمَسْجِدِ، وَقِيلَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ