فَمُحْدِثُهُ إِمَّا الْعَبْدُ أَوِ اللَّه تَعَالَى؟ فَإِنْ كَانَ هُوَ الْعَبْدَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ قُدْرَةَ الْعَبْدِ صَالِحَةٌ لِلْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِنْ تَوَقَّفَ صُدُورُ تِلْكَ الْإِرَادَةِ عَنْهَا إِلَى مُرَجِّحٍ آخَرَ، عَادَ الْكَلَامُ فِيهِ وَلَزِمَ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى الْمُرَجِّحِ فَقَدْ جَوَّزْتَ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُمْكِنِ عَلَى الْآخَرِ لَا لِمُرَجِّحٍ، وَذَلِكَ يَسُدُّ بَابَ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ وَثَانِيهَا:
أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ تِلْكَ الْأَفْعَالِ وَلَا كَيْفِيَّتَهَا، وَالْجَاهِلُ بِالشَّيْءِ لَا يَكُونُ مُحْدِثًا لَهُ، وَإِلَّا لَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِحْكَامِ وَالْإِتْقَانِ عَلَى الْعِلْمِ وَالثَّانِي: أَنَّ أَحَدًا فِي الدُّنْيَا لَا يَرْضَى بِأَنْ يَخْتَارَ الْجَهْلَ، بَلْ لَا يَقْصِدُ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَالْكَافِرُ مَا قَصَدَ إِلَّا تَحْصِيلَ الْعِلْمِ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِدُ لِفِعْلِهِ هُوَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ إِلَّا مَا قَصَدَ إِيقَاعَهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الْعِلْمَ فَكَيْفَ حَصَلَ الْجَهْلُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُوجِدَ لِلدَّوَاعِي وَالْبَوَاعِثِ هُوَ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّ الدَّاعِيَةَ إِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الْخَيْرِ كَانَتْ سَعَادَةً، وَإِنْ كَانَتْ سَائِقَةً إِلَى الشَّرِّ كَانَتْ شَقَاوَةً الوجه الثَّانِي: لَهُمْ فِي الْجَوَابِ قَوْلُهُمْ:
وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ وَهَذَا الضَّلَالُ الَّذِي جَعَلُوهُ كَالْعِلَّةِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى التَّكْذِيبِ إِنْ كَانَ هُوَ نَفْسَ ذَلِكَ التَّكْذِيبِ لَزِمَ تَعْلِيلُ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ، وَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الضَّلَالُ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ آخَرَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فِعْلُهُمْ وَمَا ذَاكَ إِلَّا خَلْقُ الدَّاعِي إِلَى الضَّلَالِ، ثُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ لَمَّا أَوْرَدُوا هَذَيْنِ/ العذرين، قال لهم سبحانه: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ وَهَذَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ مَعَ اللَّه تَعَالَى غَيْرُ جَائِزَةٍ، بَلْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ. قَالَ الْقَاضِي فِي قَوْلِهِ: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ إِلَّا الِاعْتِرَافُ، فَلَوْ كَانَ كُفْرُهُمْ مِنْ خَلْقِهِ تَعَالَى وَبِإِرَادَتِهِ وَعَلِمُوا ذَلِكَ لَكَانُوا بِأَنْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ أَجْدَرَ وَإِلَى الْعُذْرِ أَقْرَبَ، فَنَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الَّذِي ذَكَرُوهُ لَيْسَ إِلَّا ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ مُقِرُّونَ أَنْ لَا عُذْرَ لَهُمْ فَلَا جَرَمَ، قال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ فَالْمَعْنَى: أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ إِلَى دَارِ الدُّنْيَا، فَإِنْ عُدْنَا إِلَى الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ فَإِنَّا ظَالِمُونَ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ عِقَابَهُمْ دَائِمٌ؟ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَلْحَقَهُمُ السَّهْوُ عَنْ ذَلِكَ فِي أَحْوَالِ شِدَّةِ الْعَذَابِ فَيَسْأَلُونَ الرَّجْعَةَ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ يَسْأَلُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْغَوْثِ والاسترواح.
أما قوله: اخْسَؤُا فِيها فَالْمَعْنَى ذِلُّوا فِيهَا وَانْزَجِرُوا كَمَا يُزْجَرُ الْكِلَابُ إِذَا زُجِرَتْ، يُقَالُ: خَسَأَ الْكَلْبُ وَخَسَأَ بِنَفْسِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَلا تُكَلِّمُونِ فَلَيْسَ هَذَا نَهْيًا لِأَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ فِي الْآخِرَةِ، بَلِ الْمُرَادُ لَا تُكَلِّمُونِ فِي رَفْعِ الْعَذَابِ فَإِنَّهُ لَا يُرْفَعُ وَلَا يُخَفَّفُ، قِيلَ هُوَ آخِرُ كَلَامٍ يَتَكَلَّمُونَ بِهِ ثُمَّ لَا كَلَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الشَّهِيقُ وَالزَّفِيرُ، وَالْعُوَاءُ كَعُوَاءِ الْكِلَابِ، لَا يُفْهِمُونَ وَلَا يُفْهَمُونَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَنَّ لَهُمْ سِتَّ دَعَوَاتٍ، إِذَا دَخَلُوا النَّارَ قَالُوا أَلْفَ سَنَةٍ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا السَّجْدَةِ: 12 فَيُجَابُونَ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي السَّجْدَةِ: 13 فَيُنَادُونَ أَلْفَ سَنَةٍ ثَانِيَةٍ رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ غَافِرٍ: 11 فَيُجَابُونَ ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ غَافِرٍ: 12 فينادون ألف ثالثة يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ الزُّخْرُفِ: 77 فَيُجَابُونَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ الزُّخْرُفِ:
77 فَيُنَادُونَ أَلْفًا رَابِعَةً رَبَّنا أَخْرِجْنا فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ إِبْرَاهِيمَ:
44 فَيُنَادُونَ أَلْفًا خَامِسَةً أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فَاطِرٍ: 37 فَيُجَابُونَ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ فَاطِرٍ: 37 فَيُنَادُونَ أَلْفًا سَادِسَةً رَبِّ ارْجِعُونِ الْمُؤْمِنُونَ: 99 فَيُجَابُونَ اخْسَؤُا فِيها ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنَّ فَزَعَهُمْ بِأَمْرٍ يَتَّصِلُ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ