حَكَمَ بِالشَّهَادَاتِ الْأَرْبَعِ وَذَلِكَ لَا يُنَافِي جَوَازَ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَقْذُوفَ لَوْ أَقَرَّ بِالزِّنَا مَرَّةً لَسَقَطَ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ، وَلَوْلَا أَنَّ الزِّنَا ثَبَتَ لَمَا سَقَطَ كَمَا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالزِّنَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنِ الْقَاذِفِ حَيْثُ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الزِّنَا واللَّه أَعْلَمُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: الشَّهَادَةُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعِ شَهَادَاتٍ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ النِّسَاءِ: 15 وَالْكَلَامُ فِيهِ سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ النُّورِ: 4 .
الْبَحْثُ الْخَامِسُ: فِي أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاجْلِدُوا مَنْ هُوَ؟ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ هُوَ الْإِمَامُ، ثُمَّ احْتَجُّوا بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الْإِمَامِ، قَالُوا لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَوَلَّى إِقَامَتَهُ إِلَّا الْإِمَامُ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ الْمُطْلَقُ إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا لِلْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ فَكَانَ نَصْبُ الْإِمَامِ وَاجِبًا، وَقَدْ مَرَّ بَيَانُ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما الْمَائِدَةِ: 38 بَقِيَ هَاهُنَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه السَّيِّدُ يَمْلِكُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى مَمْلُوكِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَفَاطِمَةَ وَعَائِشَةَ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّه لَا يَمْلِكُ، وَقَالَ مَالِكٌ يَحُدُّهُ المولى من الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَالَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ/ فَلْيَجْلِدْهَا»
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ»
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لِأَنَّ
قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
هُوَ كَقَوْلِهِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ رَفْعُهُ إِلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمُ الْأَئِمَّةُ، وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمُ الْحُدُودَ فَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»
عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا
قَوْلُهُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا»
فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا، لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ، فَإِذَا عَزَّرْنَا فَقَدْ وَفَّيْنَا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَالْجَوَابُ: أَنَّ
قَوْلَهُ: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ»
أَمْرٌ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَحَمْلُ هَذَا اللَّفْظِ عَلَى رَفْعِ الْوَاقِعَةِ إِلَى الْإِمَامِ عُدُولٌ عَنِ الظَّاهِرِ، أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ تُرِكَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ فَاجْلِدُوا، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِ الظَّاهِرِ هُنَاكَ تَرْكُهُ هَاهُنَا، أَمَّا
قَوْلُهُ: «فَلْيَجْلِدْهَا»
الْمُرَادُ هُوَ التَّعْزِيرُ فَبَاطِلٌ لِأَنَّ الْجَلْدَ الْمَذْكُورَ عَقِيبَ الزِّنَا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلا الحدو ثانيها: أَنَّ السُّلْطَانَ لَمَّا مَلَكَ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَسَيِّدُهُ بِهِ أَوْلَى لِأَنَّ تَعَلُّقَ السَّيِّدِ بِالْعَبْدِ أَقْوَى مِنْ تَعَلُّقِ السُّلْطَانِ بِهِ، لِأَنَّ الْمِلْكَ أَقْوَى مَنْ عَقْدِ الْبَيْعَةِ، وَوِلَايَةُ السَّادَةِ عَلَى الْعَبِيدِ فَوْقَ وِلَايَةِ السُّلْطَانِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، حَتَّى إِذَا كَانَ لِلْأَمَةِ سَيِّدٌ وَأَبٌ فَإِنَّ وِلَايَةَ النكاح للسيد دون الأب، ثم إن الْأَبُ مُقَدَّمٌ عَلَى السُّلْطَانِ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ السَّيِّدُ مُقَدَّمًا عَلَى السُّلْطَانِ بِدَرَجَاتٍ فَكَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْإِمَامُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى أَوْلَى وَثَالِثُهَا: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ السَّيِّدَ يَمْلِكُ التَّعْزِيرَ فَكَذَا الْحَدُّ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ نَظِيرُ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّرًا وَالْآخَرُ غَيْرَ مُقَدَّرٍ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: قَالَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ خِطَابٌ مَعَ الْأَئِمَّةِ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ، فَالتَّقْدِيرُ فَاجْلِدُوا أَيُّهَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ كُلَّ وَاحِدٍ