بَعْدَ الْبُلُوغِ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»
وَلَكِنْ يُعَزَّرَانِ لِلتَّأْدِيبِ إِنْ كَانَ لَهُمَا تَمْيِيزٌ، فَلَوْ لَمْ تَتَّفِقْ إِقَامَةُ التَّعْزِيرِ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى بَلَغَ، قَالَ الْقَفَّالُ يَسْقُطُ التَّعْزِيرُ لِأَنَّهُ كَانَ لِلزَّجْرِ عَنْ إِسَاءَةِ الْأَدَبِ وَقَدْ حَدَثَ زَاجِرٌ أَقْوَى وَهُوَ الْبُلُوغُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْأَخْرَسُ إِذَا كَانَتْ لَهُ إِشَارَةٌ مَفْهُومَةٌ أَوْ كِتَابَةٌ مَعْلُومَةٌ وَقَذَفَ بِالْإِشَارَةِ أَوْ بِالْكِنَايَةِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ لِعَانُهُ بِالْإِشَارَةِ وَالْكِنَايَةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه لَا يَصِحُّ قَذْفُ الْأَخْرَسِ وَلَا لِعَانُهُ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ مَنْ كَتَبَ أَوْ أَشَارَ إِلَى الْقَذْفِ فَقَدْ رَمَى الْمُحْصَنَةَ وَأَلْحَقَ الْعَارَ بِهَا فَوَجَبَ انْدِرَاجُهُ تَحْتَ الظَّاهِرِ، وَلِأَنَّا نَقِيسُ قَذْفَهُ وَلِعَانَهُ عَلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَعُثْمَانُ الْقِنُّ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً،
رَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ»
وَعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: «أَدْرَكْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْخُلَفَاءِ وَكُلُّهُمْ يَضْرِبُونَ الْمَمْلُوكَ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ» وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرُوِيَ أَنَّهُ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْعَبْدَ فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ. وَمَدَارُ المسألة عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَرِيحَةٌ فِي إِيجَابِ الثَّمَانِينَ فَمَنْ رَدَّ هَذَا الْحَدَّ إِلَى أَرْبَعِينَ فَطَرِيقُهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ النِّسَاءِ: 25 فَنَصَّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْأَمَةِ فِي الزِّنَا نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ، ثُمَّ قَاسُوا الْعَبْدَ عَلَى الْأَمَةِ فِي تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا، ثُمَّ قَاسُوا تَنْصِيفَ حَدِّ قَذْفِ الْعَبْدِ عَلَى تَنْصِيفِ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّهِ، فَرَجَعَ حَاصِلُ الْأَمْرِ إِلَى تَخْصِيصِ عُمُومِ الْكِتَابِ بِهَذَا الْقِيَاسِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلَى دُخُولِ الْكَافِرِ تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ لِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُ وَلَا مَانِعَ، فَالْيَهُودِيُّ إِذَا قَذَفَ الْمُسْلِمَ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ واللَّه أَعْلَمُ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي الْمَرْمِيِّ وَهِيَ الْمُحَصَنَةُ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: اسْمُ الْإِحْصَانِ يَقَعُ عَلَى الْمُتَزَوِّجَةِ وَعَلَى الْعَفِيفَةِ وَإِنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَرْيَمَ: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها الْأَنْبِيَاءِ: 91 وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ مَنْعِ الْفَرْجِ فَإِذَا تَزَوَّجَتْ مَنَعَتْهُ إِلَّا مِنْ زَوْجِهَا، وَغَيْرُ الْمُتَزَوِّجَةِ تَمْنَعُهُ كُلَّ أَحَدٍ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْعَفَائِفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً وَسَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ رَقِيقَةً، إِلَّا أَنَّ الْفُقَهَاءَ قَالُوا: شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ خَمْسَةٌ الْإِسْلَامُ وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعِفَّةُ مِنَ الزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْإِسْلَامَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ أَشْرَكَ باللَّه فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ»
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ»
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْحَرِيَّةَ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَاقِصُ الدَّرَجَةِ فَلَا يَعْظُمُ عَلَيْهِ التَّعْيِيرُ بِالزِّنَا، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا الْعِفَّةَ عَنِ الزِّنَا لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِتَكْذِيبِ الْقَاذِفِ، فَإِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ زَانِيًا فَالْقَاذِفُ صَادِقٌ فِي الْقَذْفِ. وكذلك إذا كان المقذوف وطأ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِأَنَّ فِيهِ شُبْهَةَ الزِّنَا كَمَا فِيهِ شُبْهَةُ الْحِلِّ، فَكَمَا أَنَّ إِحْدَى الشُّبْهَتَيْنِ أَسْقَطَتِ الْحَدَّ عَنِ الْوَاطِئِ فَكَذَا الْأُخْرَى تُسْقِطُهُ عَنْ قَاذِفِهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا، أَوْ مَنْ قَدْ رَمَى امْرَأَةً، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، بَلْ يُعَزَّرُ لِلْأَذَى، حَتَّى لَوْ زَنَى فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ وَحَسُنَ حَالُهُ وَشَاخَ فِي الصَّلَاحِ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ زَنَى كَافِرٌ أَوْ رَقِيقٌ ثُمَّ أَسْلَمَ وَعُتِقَ وَصَلُحَ حَالُهُ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ زَنَى فِي حَالِ صِغَرِهِ أَوْ جُنُونِهِ ثُمَّ بَلَغَ أَوْ أَفَاقَ فَقَذَفَهُ قَاذِفٌ يُحَدُّ، لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ