وَالْمُعَارِضَ وَهُوَ الِاسْتِثْنَاءُ يَكْفِي فِي تَصْحِيحِهِ تَعْلِيقُهُ بِجُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ يَخْرُجُ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا فَوَجَبَ تَعْلِيقُهُ بِالْجُمْلَةِ الواحدة فقطو ثالثها: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَوْ رَجَعَ إِلَى كُلِّ الْجُمَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ لَوَجَبَ أَنَّهُ إِذَا تَابَ أَنْ لَا يُجْلَدَ وَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ الِاسْتِثْنَاءُ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَالِاسْتِثْنَاءُ عَقِيبَ الِاسْتِثْنَاءِ لَوْ رَجَعَ إِلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ وَإِلَى الْمُسْتَثْنَى فَبِقَدْرِ مَا نَفَى مِنْ أَحَدِهِمَا أَثْبَتَ فِي الْآخَرِ فَيَنْجَبِرُ النَّاقِصُ بِالزَّائِدِ وَيَصِيرُ الِاسْتِثْنَاءُ الثَّانِي عَدِيمَ الْفَائِدَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قُلْنَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ إِنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْجُمْلَةِ
الْأَخِيرَةِ وَالْجَوَابُ: عَنِ الثَّانِي أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ وَاوَ الْعَطْفِ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فَلَمْ يَكُنْ بَعْضُ الْجُمَلِ مُتَأَخِّرًا فِي التَّقْدِيرِ عَنِ الْبَعْضِ، فَلَمْ يَكُنْ تَعْلِيقُهُ بِالْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تعليقه بالباقي، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه فِي المسألة بِوُجُوهٍ مِنَ الْأَخْبَارِ أَحَدُهَا: مَا
رَوَى ابن عباس رضي اللَّه عنهما في قصة هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ»
فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ/ أَنْ وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا وَثَانِيهَا: أَنَّ
قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بعض إلا محدود فِي قَذْفٍ»
وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ منه وثالثها: ما
روى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ»
قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ هَذَا مُعَارَضٌ بِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ»
وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَإِذَا عَلِمَ الْمَحْدُودُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الشَّهَادَةُ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا تَكُونُ عَبَثًا وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ»
وَهَاهُنَا قَدْ حَصَلَ الظُّهُورُ لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ وَعِفَّتَهُ الْحَاصِلَةَ بِالتَّوْبَةِ تُفِيدُ ظَنَّ كَوْنِهِ صَادِقًا وَثَالِثُهَا: مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ «أَنَّهُ ضَرَبَ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَهُمْ أَبُو بَكْرَةَ وَنَافِعٌ وَنُفَيْعٌ، ثم قال لَهُمْ مَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُ فأكذب نافع ونفيه أَنْفُسَهُمَا وَتَابَا وَكَانَ يَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا. وَأَمَّا أَبُو بَكْرَةَ فَكَانَ لَا يَقْبَلُ شَهَادَتَهُ» وَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِيهِ، فَهَذَا تَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ المسألة.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْقَذْفَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ اسْمَ الْفِسْقِ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلِهِ لَكَانَتِ التَّوْبَةُ لَا تَمْنَعُ مِنْ دَوَامِهِ كَمَا لَا تَمْنَعُ مِنْ وَصْفِهِ بِأَنَّهُ ضَارِبٌ وَبِأَنَّهُ رَامٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ التَّوْبَةَ عَنِ الْقَذْفِ كَيْفَ تَكُونُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه التَّوْبَةُ مِنْهُ إِكْذَابُهُ نَفْسَهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ الْإِصْطَخْرِيُّ يَقُولُ: كَذَبْتُ فِيمَا قُلْتُ فَلَا أَعُودُ لِمِثْلِهِ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ كَذَبْتُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ صَادِقًا فَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذَبْتُ كَذِبًا وَالْكَذِبُ مَعْصِيَةٌ، وَالْإِتْيَانُ بِالْمَعْصِيَةِ لَا يَكُونُ تَوْبَةً عَنْ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى، بَلْ يَقُولُ الْقَاذِفُ بَاطِلًا نَدِمْتُ عَلَى مَا قُلْتُ وَرَجَعْتُ عَنْهُ وَلَا أَعُودُ إِلَيْهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَأَصْلَحُوا فَقَالَ أَصْحَابُنَا إِنَّهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ مُدَّةٍ عَلَيْهِ فِي حُسْنِ الْحَالِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ وَتَعُودَ وِلَايَتُهُ، ثُمَّ قَدَّرُوا تِلْكَ الْمُدَّةَ بِسَنَةٍ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ الْفُصُولُ الْأَرْبَعُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْأَحْوَالُ وَالطِّبَاعُ كَمَا يُضْرَبُ لِلْعِنِّينِ أَجْلٌ سَنَةً، وَقَدْ عَلَّقَ الشَّرْعُ أَحْكَامًا بِالسَّنَةِ مِنَ الزَّكَاةِ وَالْجِزْيَةِ وَغَيْرِهِمَا.