سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
الحكم السادس في الاستئذاناعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى عَدَلَ عَمَّا يَتَّصِلُ بِالرَّمْيِ وَالْقَذْفِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِمَا مِنَ الْحُكْمِ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْإِفْكِ إِنَّمَا وَجَدُوا السَّبِيلَ إِلَى بُهْتَانِهِمْ مِنْ حَيْثُ اتَّفَقَتِ الْخَلْوَةُ فَصَارَتْ كَأَنَّهَا طَرِيقُ التُّهْمَةِ، فَأَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى أَنْ لَا يَدْخُلَ الْمَرْءُ بَيْتَ غَيْرِهِ إِلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ، لِأَنَّ فِي الدُّخُولِ لَا عَلَى هَذَا الوجه وُقُوعُ التُّهْمَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِلَخْ وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَاتٌ:
السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الِاسْتِئْنَاسُ عِبَارَةٌ عَنِ الْأُنْسِ الْحَاصِلِ مِنْ جِهَةِ الْمُجَالَسَةِ، قال تعالى: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ الأحزاب: 53 ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَعْدَ الدُّخُولِ وَالسَّلَامِ فَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ فَلِمَ جَاءَ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؟ وَالْجَوَابُ: عَنْ هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: مَا يُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، إِنَّمَا هُوَ حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا فَأَخْطَأَ الْكَاتِبُ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا لَكُمْ وَالتَّسْلِيمُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ تَحِيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالدُّمُورِ، وَهُوَ الدُّخُولُ بِغَيْرِ إِذْنٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الدَّمَارِ وَهُوَ الْهَلَاكُ كَأَنَّ صَاحِبَهُ دَامِرٌ لِعِظَمِ مَا ارْتَكَبَ،
وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ سَبَقَتْ عَيْنُهُ اسْتِئْذَانَهُ فَقَدْ دَمَرَ،
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الطَّعْنَ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي نُقِلَ بِالتَّوَاتُرِ وَيَقْتَضِي صِحَّةَ الْقُرْآنِ الَّذِي لَمْ يُنْقَلُ بِالتَّوَاتُرِ وَفَتْحُ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ يُطْرِقُ الشَّكَّ إِلَى كُلِّ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ وَثَانِيهَا: مَا رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ إِنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْنِسُوا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّلَامَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْتِئْنَاسِ، وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه: حَتَّى تُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا وَتَسْتَأْذِنُوا، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَثَالِثُهَا: أَنْ تُجْرِيَ الْكَلَامَ عَلَى ظَاهِرِهِ. ثُمَّ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِئْنَاسِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا اسْتَأْذَنُوا وَسَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَلَوْ دَخَلُوا بِغَيْرِ إِذْنٍ لَاسْتَوْحَشُوا وَشَقَّ عَلَيْهِمُ الثَّانِي: تَفْسِيرُ الِاسْتِئْنَاسِ بِالِاسْتِعْلَامِ وَالِاسْتِكْشَافِ اسْتِفْعَالٌ مِنْ آنَسَ الشَّيْءَ إِذَا أَبْصَرَهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، وَالْمَعْنَى حَتَّى تَسْتَعْلِمُوا وَتَسْتَكْشِفُوا الْحَالَ هَلْ يُرَادُ دُخُولُكُمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ اسْتَأْنِسْ هَلْ تَرَى أَحَدًا، وَاسْتَأْنَسْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَيْ تَعَرَّفْتُ وَاسْتَعْلَمْتُ، فَإِنْ قِيلَ وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْأُنْسِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَقَدَّمَهُ السَّلَامُ كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ»
قُلْنَا الْمُسْتَأْذِنُ رُبَّمَا لَا يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا فِي الْمَنْزِلِ فَلَا مَعْنَى لِسَلَامِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَسْتَعْلِمَ بِالِاسْتِئْذَانِ هَلْ هُنَاكَ مَنْ يَأْذَنُ، فَإِذَا أُذِنَ وَدَخَلَ صَارَ مُوَاجِهًا لَهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ اشْتِقَاقُ الِاسْتِئْنَاسِ/ مِنَ الْإِنْسِ وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُقَدَّمٌ عَلَى السَّلَامِ وَالرَّابِعُ: لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ إِنَّمَا يَقَعُ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَكِنَّ الْوَاوَ لا توجب