سَاجِدِينَ كَأَنَّهُمْ أُخِذُوا فَطُرِحُوا طَرْحًا، فَإِنْ قِيلَ فَاعِلُ الْإِلْقَاءِ مَا هُوَ لَوْ صَرَّحَ بِهِ؟ جَوَابُهُ: هُوَ اللَّه تَعَالَى بِمَا (حَصَلَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الدَّوَاعِي الْجَازِمَةِ الْخَالِيَةِ عَنِ الْمُعَارَضَاتِ/ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى) «1» أَنْ لَا نُقَدِّرَ فَاعِلًا لِأَنَّ أُلْقِيَ بِمَعْنَى خَرَّ وَسَقَطَ.
أَمَّا قَوْلُهُ: رَبِّ مُوسى وَهارُونَ فَهُوَ عَطْفُ بَيَانٍ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ فَأَرَادُوا عَزْلَهُ وَمَعْنَى إِضَافَتِهِ إِلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ أَنَّهُ الَّذِي دَعَا مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَيْهِ.
سورة الشعراء (26) : الآيات 49 الى 51قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
اعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا آمَنُوا بِأَجْمَعِهِمْ لَمْ يَأْمَنْ فِرْعَوْنُ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ إِنَّ هَؤُلَاءِ السَّحَرَةَ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِلَّا عَنْ مَعْرِفَةٍ بِصِحَّةِ أَمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَسْلُكُونَ مِثْلَ طَرِيقِهِمْ فَلَبَّسَ عَلَى الْقَوْمِ وَبَالَغَ فِي التَّنْفِيرِ عَنْ مُوسَى عليه السلام من وجوه: أولها: قَوْلُهُ: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ وَهَذَا فِيهِ إِيهَامٌ أَنَّ مُسَارَعَتَكُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّكُمْ كُنْتُمْ مَائِلِينَ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ يَطْرُقُ التُّهْمَةَ إِلَيْهِمْ فَلَعَلَّهُمْ قَصَّرُوا فِي السِّحْرِ حِيَالَهُ وَثَانِيهَا:
قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِمَا رَمَزَ بِهِ أَوَّلًا، وَغَرَضُهُ مِنْهُ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَنْ مُوَاطَأَةٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَصَّرُوا فِي السِّحْرِ لِيَظْهَرَ أَمْرُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِلَّا فَفِي قُوَّةِ السَّحَرَةِ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهَذِهِ شُبْهَةٌ قَوِيَّةٌ فِي تَنْفِيرِ مَنْ يَقْبَلُ قَوْلَهُ وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَهُوَ وَعِيدٌ مُطْلَقٌ وَتَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ وَهَذَا هُوَ الْوَعِيدُ الْمُفَصَّلُ وَقَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ هُوَ قَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى وَالصَّلْبُ مَعْلُومٌ، وَلَيْسَ فِي الْإِهْلَاكِ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَجَابُوا عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُمْ: لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ الضُّرُّ وَالضَّيْرُ وَاحِدٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ إِنْ وَقَعَ لَمْ يَضُرَّ وَإِنَّمَا عَنَوْا بِالْإِضَافَةِ إِلَى مَا عَرَفُوهُ مِنْ دَارِ الْجَزَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ فِيهِ نُكْتَةٌ شَرِيفَةٌ وَهِيَ أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي حُبِّ اللَّه/ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَا أَرَادُوا شَيْئًا سِوَى الْوُصُولِ إِلَى حَضْرَتِهِ، وَأَنَّهُمْ مَا آمَنُوا رَغْبَةً فِي ثَوَابٍ أَوْ رَهْبَةً مِنْ عِقَابٍ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُمْ مَحْضُ الْوُصُولِ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَالِاسْتِغْرَاقِ فِي أَنْوَارِ مَعْرِفَتِهِ، وَهَذَا أَعْلَى دَرَجَاتِ الصَّدِّيقِينَ الْجَوَابُ الثَّانِي:
قَوْلُهُمْ: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا فَهُوَ إِشَارَةٌ مِنْهُمْ إِلَى الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِهِمَا، وَالطَّمَعُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَحْتَمِلُ الْيَقِينَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشُّعَرَاءِ: 82 وَيَحْتَمِلُ الظَّنَّ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَعْلَمُ مَا سَيَجِيءُ مِنْ بَعْدُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فَالْمُرَادُ لِأَنْ كُنَّا أَوَّلَ المؤمنين من الجماعة الذين حضروا ذلك