منه وأراهم بذلك «1» أَنَّهَا نَصِيحَةٌ نَصَحَ بِهَا نَفْسَهُ، فَإِذَا تَفَكَّرُوا قَالُوا مَا نَصَحَنَا إِبْرَاهِيمُ إِلَّا بِمَا نَصَحَ بِهِ نَفْسَهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى لِلْقَبُولِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: لِمَ لَمْ يَقُلْ فَإِنَّهُمْ أَعْدَائِي؟ جَوَابُهُ الْعَدُوُّ وَالصَّدِيقُ يَجِيئَانِ فِي مَعْنَى الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ:
وَقَوْمٍ عَلَيَّ ذَوِي (مِرَّةٍ) «2»
... أَرَاهُمْ عَدُوًّا وَكَانُوا صَدِيقًا
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ الكهف: 50 وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
الشعراء: 16 .
السُّؤَالُ الرَّابِعُ: مَا هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ؟ جَوَابُهُ أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ كَأَنَّهُ قَالَ لَكِنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
سورة الشعراء (26) : الآيات 78 الى 82الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ اسْتَثْنَى رَبَّ الْعَالَمِينَ، حَكَى عَنْهُ أَيْضًا مَا وَصَفَهُ بِهِ مِمَّا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِهِ، ثُمَّ حَكَى عَنْهُ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوْصَافُ فَأَرْبَعَةٌ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى الْأَعْلَى: 2، 3 وَاعْلَمْ أن الخلق والهداية مهما يَحْصُلُ جَمِيعُ الْمَنَافِعِ لِكُلِّ مَنْ يَصِحُّ الِانْتِفَاعُ عَلَيْهِ، فَلْنَتَكَلَّمْ فِي الْإِنْسَانِ فَنَقُولُ إِنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ «3» هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ وَالْجُسْمَانِيَّاتِ، وَمَنْ قَالَ «4» هُوَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ وَالرُّوحَانِيَّاتِ، وَتَرْكِيبُ الْبَدَنِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْخَلْقِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِعْطَاءِ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ/ الْأَمْرِ عَلَى مَا أَخْبَرَ عَنْهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ص: 72 فَالتَّسْوِيَةُ إِشَارَةٌ إِلَى تَعْدِيلِ الْمِزَاجِ وَتَرْكِيبِ الْأَمْشَاجِ، وَنَفْخُ الرُّوحِ إِشَارَةٌ إِلَى اللَّطِيفَةِ الرَّبَّانِيَّةِ النُّورَانِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنْ عَالَمِ الْأَمْرِ، وَأَيْضًا قَالَ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ الْمُؤْمِنُونَ: 12 وَلَمَّا تَمَّمَ مَرَاتِبَ تَغَيُّرَاتِ الْأَجْسَامِ قَالَ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ الْمُؤْمِنُونَ: 14 وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الرُّوحِ الَّذِي هُوَ مِنْ عَالَمِ الْمَلَائِكَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْهِدَايَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ مِنَ الرُّوحِ، فَقَدْ ظَهَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْخَلْقَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِدَايَةِ.
أَمَّا تَحْقِيقُهُ بِحَسَبِ الْمَبَاحِثِ الْحَقِيقِيَّةِ، فَهُوَ أَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ عند امتزاج المني بدم الطمث،