الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي لَيَقُولُنَّ قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: الْفَتْحُ حَمْلًا عَلَى قَوْلِهِ: مَنْ يَقُولُ آمَنَّا يَعْنِي مَنْ يَقُولُ آمَنَّا إِذَا أُوذِيَ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْقَوْلَ، وَإِذَا جَاءَ النَّصْرُ يَقُولُ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ وَثَانِيَتُهُمَا: الضَّمُّ عَلَى الْجَمْعِ إِسْنَادًا لِلْقَوْلِ إِلَى الْجَمِيعِ الَّذِينَ دَلَّ عَلَيْهِمُ الْمَفْهُومُ فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا جَمَاعَةً، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ أَرَادُوا التَّلْبِيسَ وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لَهُمْ لأن التلبيس إنما يكون عند ما يُخَالِفُ الْقَوْلُ الْقَلْبَ، فَالسَّامِعُ يَبْنِي الْأَمْرَ عَلَى قَوْلِهِ وَلَا يَدْرِي مَا فِي قَلْبِهِ فَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ مِنَ الْإِنْسَانِ فَلَا يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَالْمُنَافِقُ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ وَيُضْمِرُ الْكُفْرَ كَافِرٌ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُكْرَهُ الَّذِي يُظْهِرُ الْكُفْرَ وَيُضْمِرُ الْإِيمَانَ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ أَعْلَمَ بِمَا فِي قُلُوبِ الْعَالَمِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنَ الْمُحِقَّ وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَالْمُنَافِقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ، لَكِنْ فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ هُنَاكَ: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وقال هاهنا: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا فَنَقُولُ لَمَّا كَانَ الذِّكْرُ هُنَاكَ لِلْمُؤْمِنِ/ وَالْكَافِرِ، وَالْكَافِرُ فِي قَوْلِهِ كَاذِبٌ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْمُؤْمِنُ فِي قَوْلِهِ صَادِقٌ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ مَنْ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ، فَكَانَ الْحَاصِلُ هُنَاكَ قسمين صادقا وكاذبا «1» وكان هاهنا الْمُنَافِقُ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ اللَّهُ وَاحِدٌ، فَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُنَافِقِ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وَاعْتَبَرَ أَمْرَ الْقَلْبِ فِي الْمُؤْمِنِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ فَقَالَ: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. ثم قال تعالى:
سورة العنكبوت (29) : آية 12وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْفِرَقَ الثَّلَاثَةَ وَأَحْوَالَهُمْ، وَذَكَرَ أَنَّ الْكَافِرَ يَدْعُو مَنْ يَقُولُ آمَنْتُ إِلَى الْكُفْرِ بِالْفِتْنَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ عَذَابَ اللَّهِ فَوْقَهَا، وَكَانَ الْكَافِرُ يَقُولُ لِلْمُؤْمِنِ تَصْبِرُ فِي الذُّلِّ وَعَلَى الْإِيذَاءِ لِأَيِّ شَيْءٍ وَلِمَ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِكَ الذُّلَّ وَالْعَذَابَ بِمُوَافَقَتِنَا؟ فَكَانَ جَوَابُ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَقُولَ خَوْفًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ عَلَى خَطِيئَةِ مَذْهَبِكُمْ، فَقَالُوا لَا خَطِيئَةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ خَطِيئَةٌ فَعَلَيْنَا، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلْنَحْمِلْ صِيغَةُ أَمْرٍ، وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ الْأَمْرِ، فَكَيْفَ يَصِحُّ أَمْرُ النَّفْسِ مِنَ الشَّخْصِ؟ فَنَقُولُ الصِّيغَةُ أَمْرٌ وَالْمَعْنَى شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، أَيْ إِنِ اتَّبَعْتُمُونَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ، قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِ مَنْ يُرِيدُ اجْتِمَاعَ أَمْرَيْنِ فِي الْوُجُودِ، فَيَقُولُ لِيَكُنْ مِنْكَ الْعَطَاءُ وَلْيَكُنْ مِنِّي الدُّعَاءُ، فَقَوْلُهُ وَلْنَحْمِلْ، أَيْ لِيَكُنْ مِنَّا الْحَمْلُ وَلَيْسَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرُ طَلَبٍ وَإِيجَابٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ وَقَالَ بَعْدَ هَذَا: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ العنكبوت: 13 فهناك نفى الحمل، وهاهنا أَثْبَتَ الْحَمْلَ، فَكَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَنَقُولُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
فُلَانٌ حَمَلَ عَنْ فُلَانٍ يُفِيدُ أَنَّ حِمْلَ فُلَانٍ خَفَّ، وَإِذَا لَمْ يَخِفَّ حِمْلُهُ فَلَا يَكُونُ قَدْ حَمَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَكَذَلِكَ هاهنا مَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ يَعْنِي لَا يَرْفَعُونَ عَنْهُمْ خَطِيئَةً وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارًا بِسَبَبِ إضلالهم ويحملون أوزارا