بِسَبَبِ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ وِزْرِهِ شَيْءٌ» .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الصِّيغَةُ أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ لَا يَدْخُلُهُ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ قَوْلُهُ: إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ نَقُولُ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَعْنَاهُ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ، فَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَهُمْ كَذَبُوا فِي هَذَا فَإِنَّهُمْ لا يحملون شيئا.
ثم قال تعالى:
سورة العنكبوت (29) : آية 13وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)
فِي الَّذِي كَانُوا يَفْتَرُونَهُ يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا: كَانَ قولهم: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ العنكبوت: 12 صَادِرًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنْ لَا خَطِيئَةَ فِي الْكُفْرِ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَظْهَرُ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ الِافْتِرَاءِ وَثَانِيهَا: أَنَّ قَوْلَهُمْ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ كَانَ عَنِ اعْتِقَادِ أَنْ لَا حَشْرَ، فَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ظَهَرَ لَهُمْ خِلَافُ ذَلِكَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لَهُمْ أَمَا قُلْتُمْ أَنْ لَا حَشْرَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا إِنْ تَتَّبِعُونَا نَحْمِلْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَطَايَاكُمْ، يُقَالُ لَهُمْ فَاحْمِلُوا خَطَايَاهُمْ فَلَا يَحْمِلُونَ فَيُسْأَلُونَ وَيُقَالُ لهم لم افتريتم. ثم قال تعالى:
سورة العنكبوت (29) : آية 14وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14)
وَجْهُ تَعَلُّقِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ التَّكْلِيفَ وَذَكَرَ أَقْسَامَ الْمُكَلَّفِينَ وَوَعَدَ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ بِالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَأَوْعَدَ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَكَانَ قَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَذَا التَّكْلِيفَ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ وَأَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ حَتَّى صَعُبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، بَلْ قَبْلَهُ كَانَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْعَنْكَبُوتِ: 3 ذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ كَلَّفَ جَمَاعَةً مِنْهُمْ نُوحٌ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَوْمُهُ وَمِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَغَيْرُهُمَا، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً وفي الآية مسائل:
الْأُولَى: مَا الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ مُدَّةٍ لُبْثِهِ؟ نَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِسَبَبِ عَدَمِ دُخُولِ الْكُفَّارِ فِي الْإِسْلَامِ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ فَقَالَ إِنَّ نُوحًا لَبِثَ أَلْفَ سَنَةٍ تَقْرِيبًا فِي الدُّعَاءِ وَلَمْ يُؤْمِنْ مِنْ قَوْمِهِ إِلَّا قَلِيلٌ، وَصَبَرَ وَمَا ضَجِرَ فَأَنْتَ أَوْلَى بِالصَّبْرِ لِقِلَّةِ مُدَّةِ لُبْثِكَ وَكَثْرَةِ عَدَدِ أُمَّتِكَ، وَأَيْضًا كَانَ الْكُفَّارُ يَغْتَرُّونَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ أَكْثَرَ وَمَعَ ذَلِكَ مَا نَجَوْا فَبِهَذَا الْمِقْدَارِ مِنَ التَّأْخِيرِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَغْتَرُّوا فَإِنَّ الْعَذَابَ يَلْحَقُهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْعَدَدِ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي، فَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةٌ إِلَّا ثَلَاثَةً، فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ سَبْعَةٌ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَقَوْلُهُ: أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا كَقَوْلِهِ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، فَمَا الْفَائِدَةُ فِي الْعُدُولِ عَنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ إِلَى غَيْرِهَا؟ فَنَقُولُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِيهِ فَائِدَتَانِ إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَدُلُّ عَلَى التَّحْقِيقِ وَتَرْكَهُ قَدْ يُظَنُّ بِهِ التَّقْرِيبُ فَإِنَّ مَنْ قَالَ: / عَاشَ فُلَانٌ أَلْفَ سَنَةٍ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنْ يَقُولَ: أَلْفُ سَنَةٍ تَقْرِيبًا لَا تَحْقِيقًا، فَإِذَا قَالَ إِلَّا شَهْرًا أَوْ إِلَّا سَنَةً يَزُولُ ذَلِكَ التَّوَهُّمُ وَيُفْهَمُ مِنْهُ التَّحْقِيقُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ ذِكْرَ لُبْثِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي قَوْمِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّهُ صَبَرَ كَثِيرًا فَالنَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْلَى بِالصَّبْرِ مَعَ قِصَرِ مُدَّةِ دُعَائِهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَذِكْرُ الْعَدَدِ الَّذِي فِي أَعْلَى مَرَاتِبِ الْأَعْدَادِ الَّتِي لَهَا اسْمٌ مُفْرَدٌ مَوْضُوعٌ، فَإِنَّ مراتب الأعداء هِيَ الْآحَادُ إِلَى